[كلام العلماء في الطوفان الذي وقع لقوم نوح]
ذهب العلماء في الطوفان مذاهب شتى، فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة حينئذٍ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم، ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه.
خلاصة الكلام أن الحق ما عليه أهل الشرائع في أن نوحاً عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة نزل بهم فماتوا بعد ذلك ولم يعقبوا، وصار العاقب في أولاد نوح الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:٧٧].
يقول المقريزي في الخطط: هم ثمانون رجلاً سوى أولاده، فمات الثمانون وبقي أولاده الثلاثة ومنهم خرج الجنس البشري.
وذلك باعتبار أن نوحاً هو أبو البشر الثاني.
وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع؛ لما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا، فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وصار أباً ثانياً للخليقة، ولذلك قيل: إنه أبو البشرية الثاني بعد آدم عليه السلام.
قال بعضهم في تقرير عموم الطوفان مبرهناً عليه: إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف.
الذين يدرسون الجيولوجيا يعرفون هذا جيداً، ففي بعض الأماكن من الأرض التي هي بعيدة تماماً عن البحار يجدون آثاراً بحرية، وحفريات من الكائنات البحرية، فهذا مما يؤيد عموم الطوفان للأرض كلها.
يقول: وقد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها وبعضها مدفون على مقربة منها، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذلك المكان وجمعها قسراً فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين، فتحجرت وظلت شاهدة على ما كان بأمر الخالق تبارك وتعالى.
إن قائل هذا الكلام ليس باحثاً من علماء الجيولوجيا، وإنما هو ابن خلدون.
واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاماً، إذ لم يكن العمران قائماً إلا لقوم نوح، فكان عاماً لهم وإن كان من جهة خاصاً بهم، إذ ليس ثم غيرهم.
قال: هبط آدم إلى الأرض وهو ليس بأمة، لذا مرت عليه قرون ولَّدت أمماً، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل قرون، ونمو عشيرته لا يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً، من آدم إلى نوح ثمانية أبناء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافاً حتى يطئوا وجه الأرض بالأقدام وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين، أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من المكان الخاص الذي سبق به البيان فلا برهان، وإن كان في غير ذلك المكان فإن لم يكن وضعها إنسان كما وجدها إنسان، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان.
على أي الأحوال يقولون: الطوفان خاص وعام، خاص بمكان، عام لسائر المكان.
يبدو أن القاسمي كان يريد التوسع في هذا البحث، يقولون: إنه ترك فراغاً قدره ثلاث صفحات وثلث صفحة في هذا الموضع، مما يشير أنه كان يريد التفصيل فيه، لكن يبدو أنه عاجلته المنية رحمه الله.