[تفسير قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم)]
ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا بها إليه أن يتصدق بها عنهم؛ كفارة لذنوبهم، أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:١٠٣].
(خذ من أموالهم) من هنا تبعيضية، يعني: خذ بعض أموالهم، وليس كل الأموال، قال المهايمي: لتصدق توبته، أي: هذا دليل على صدق التوبة، حينما تصدقوا بهذا المال، فهذه الصدقة تطهرهم، أي: عما تلطخوا به من أوضار التخلف، ومن أوضار حب المال الذي كان التخلف بسببه، فالذين تخلفوا كان سبب تخلفهم حب الدنيا وحب المال، فيكون التكفير عن هذا الذنب بإخراج شيء من هذا المال كفارة.
(وتزكيهم بها) أي: تصلحهم عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت بسبب المال.
قال الزمخشري: التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه.
فإما أن تكون التزكية بمعنى: أنها مبالغة في التطهير، وإما أن تكون بمعنى: أن الله يبارك لهم في أموالهم.
(وصل عليهم) أي: اعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، (إن صلاتك سكن لهم) أي: تسكن نفوسهم إليها، وتطمئن قلوبهم بها، ويثقون بأن الله سبحانه وتعالى قبل توبتهم.
وقال قتادة: السكن: هو الوقار، (إن صلاتك سكن لهم) يعني: وقار لهم.
القول الثاني: قال ابن عباس: رحمة لهم.
القول الثالث: (إن صلاتك سكن لهم) أي: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، فيطمئنون أنك ما صليت عليهم ودعوت لهم الله سبحانه وتعالى إلا وقد قبل منهم توبتهم وما أنفقوه.
وقيل: قربة لهم.
وقيل: تزكية لهم.
وقد روى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل -أي: دعوة صالحة- أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده.
وفي رواية: (إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل، وولده، وولد ولده) يعني: تمتد بركتها إلى الأجيال الثلاثة، والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم، يعني جملة: (إن صلاتك سكن لهم) هي علة للأمر بالصلاة، يعني: صل عليهم؛ لأن صلاتك سكن لهم، (والله سميع) أي: يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، (عليم) أي: بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم.
وإعراب (تطهرهم) على قراءة الرفع في قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) يمكن أن تكون جملة (تطهرهم) صفة لصدقة، ويمكن أن تكون حالاً من الضمير الموجود في قوله: (خذ).
وهناك قراءة أخرى بالجزم (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) على اعتبار أنها واقعة في جواب الأمر، الذي هو (خذ)، والمعنى فيه شرط، أي: إن تأخذْ من أموالهم صدقة تطهرْهم كما في قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل نبك: بدون الياء.
وتاء الخطاب في قوله: (تطهرهم) إما أن تعود على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: أنت تطهرهم، وإما أن تعود على الصدقة، فيكون المعنى: صدقة تطهرهم.
قوله: (وتزكيهم بها) لم تقرأ إلا بإثبات الياء، وهي مرفوعة لأنها معطوفة على تطهرهم، أما على القراءة الأخرى (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) قراءة الجزم، فتكون (وتزكيهم بها) خبر لمحذوف تقديره: وأنت تزكيهم بها، ولا يجوز أن تقرأ إلا بالرفع؛ اتباعاً للمصحف الشريف، وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف على تطهرهم: حالاً أو صفة.
(إن صلاتك سكن لهم) قرئ بالتوحيد: صلاتك، وقرئ أيضاً بالجمع: (إن صلواتك سكن لهم) وهي قراءة أخرى، مراعاة لتعدد المدعو لهم؛ لأنه كان يدعو لأناس كثيرين عليه الصلاة والسلام.
وقال الشهاب: صلواتك جمع صلاة؛ لأنها اسم جنس، والتوحيد لذلك، يعني: إذا قلناها بالتوحيد: (إن صلاتك) فلأنها اسم جنس، أما إذا قلنا: (إن صلواتك) فجمع صلاة.
قيل: المأمور به في آية: (خذ من أموالهم صدقة) الزكاة، و (من) تبعيضية، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم، فأمره الله أن يأخذ بعض مالهم لتوبتهم؛ بخلاف المنافقين، فإن زكاتهم وصدقتهم لم تقبل منهم.
وقيل: هذه الصدقة المذكورة ليست هي الزكاة المفروضة، بل هم لما تابوا بذلوا جميع مالهم تطوعاً؛ كفارة للذنب الصادر منهم، فأمره الله تعالى بأخذ بعض أموالهم وهو الثلث، ولذلك تمسك الإمام مالك رحمه الله تعالى بحديث أبي لبابة وقال: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث.
ونقل الرازي: أن أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ، قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء، يعني: هذه الآية لم تنزل -في رأي الرازي نقلاً عن أكثر الفقهاء- في قصة أبي لبابة وصاحبيه، وإنما نزلت لتستأنف الحكم بإيجاب الزكاة على الأغنياء، إذ هي حجة أكثر الفقهاء على فرضية الزكاة.
والجواب عن ذلك: أن خصوص سبب الآية لا يمنع عموم لفظها، يعني لو قلنا: إنها نزلت في أبي لبابة وصاحبيه حينما أرادوا التكفير بالتصدق، فهذا لا يمنع عموم الحكم في غيرهم، وتشمل بالعموم إيجاب الزكاة.