[تفسير قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل عنه حاجزين)]
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:٤٤] عندما يقرأ المسلم القرآن الكريم يشعر بقوة الله سبحانه وتعالى وعلو الله والهيمنة الإلهية والعظمة، كما في هذا السياق: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا)) فتقطع أنه لا يمكن أن يكون المتكلم بهذا الكلام هو النبي محمداً صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((عَلَيْنَا)) هذه نون العظمة.
قوله: ((بَعْضَ الأَقَاوِيلِ)) أي: لو افترى علينا، وسمي الكذب تقولاً؛ لأنه قول متكلف كما تشعر به صيغة التفعل.
و ((الأقاويل)) جمع قول على غير القياس، أو جمع الجمع كالأناعيم جمع أنعام، وقيل: تسمية الأقوال المنكرات أقاويل تحقيراً لها، وأنها جمع أفعولة من القول.
قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:٤٥] هذا كقوله تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:٨] أي: لن ينقذني من عذاب الله شيء.
هذه الآية قرأها بعض القراء: (ولو تُقوِّل علينا بعض الأقاويل) وانتصر لها بعض المسلمين استبعاداً بأن يفترض في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتقول على الله ما ليس بحق، وهذا كلام في الحقيقة غير صحيح؛ لأن هذا السياق لا يوهم أنه يمكن أن يقع من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو افتراض لما لا يتصور وقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء الافتراض في القرآن الكريم فيما هو أعظم من ذلك، كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:٨١] وهذا مجرد افتراض، وإلا فالله عز وجل منزه عن الولد سبحانه، وقال الله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] فهذا أيضاً افتراض، ولا يحتمل أن يكون في السماوات والأرض آلهة غير الله.
إذاً: ينبغي للإنسان ألا ينزعج من مثل هذه الافتراضات، فكذلك هنا قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} يعني: على سبيل الافتراض لما لا يتصور وقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:٤٦] قال ابن جرير: أي: لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة.
قوله: ((الْوَتِينَ)) يعني: نياط القلب، والمعنى: أنه لو فعل ذلك لعاجله بالعقوبة ولا يؤخره بها.
وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه، وإذا قلنا: ((باليمين)) هي في حق الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى: بالقوة منا والقدرة، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:٢٨] أي: عن القوة والقدرة.
قال الزمخشري: والمعنى: ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراًً كما يفعل الملوك بمن يكذب عليهم؛ معاجلة بالسخط والانتقام، فصوّر قتل الصبر بصورته؛ ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته، وخص اليمين عن اليسار؛ لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا المراد قتله أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده -أي: في عنقه- وأن يكفحه بالسيف- أي: يعدمه- وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف؛ أخذ بيمينه.
يعني: إذا أخذه بالشمال فيكون الضرب من جهة القفا، لكن الأخذ باليمين معناه: أنه يأخذه من أمامه بحيث يرى السيف وهو يقع على عنقه، وهذا أشد عليه وأصعب.
ثم يقول الزمخشري: ومعنى (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لأخذنا بيمينه كما أن قوله: ((لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) لقطعنا وتينه، وهذا بين.
إذاً: مما يقوي القول بأن اليمين المقصود بها يمين النبي عليه الصلاة والسلام نفسه قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) يعني: وتينه.
وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يتقول على الله باطلاً.
وما قرره الزمخشري أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة، والقول الأول هو أن معنى قوله: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) يعني لأخذنا منه بقوتنا وقدرتنا، والقول الثاني: أن معنى قوله: ((لأخذنا منه باليمين)) يعني: بيمينه، وهذا أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة.
قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٤٧] أي: ليس أحد منكم يحجزنا عنه، ويحول بيننا وبين عقوبته لو تقول علينا.