[الوعيد الشديد لمن يضحك الناس بالحديث الكاذب]
عن بهز بن حكيم قال: حدثنا أبي عن جدي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم؛ ويل له ويل له)، رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وحسنه الحاكم، والنسائي؛ ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني.
وهذا الحديث يرويه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة رضي الله عنه.
و (ويل) أي: هلاك عظيم، أو واد عميق في جهنم؛ (لمن يحدث)، أي: لمن يخبر الناس؛ (فيكذب) في حديثه؛ (ليضحك به القوم) يضحك هنا من الإضحاك، أي: بسبب تحديثه، أو يضحك بهذا الكذب القوم؛ (ويل له ويل له).
يقول الإمام المناوي في شرح هذا الحديث: (كرره إيذاناً بشدة هلكته) فكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الويل وهذا الوعيد إيذاناً بشدة هلكة من أتى هذا الفعل الشنيع.
ويقول الإمام القاري في شرحه: (كرره إما للتأكيد أو للتأذية؛ فتكون الويل الأولى للبرزخ) أي: ويل له أنه يلقى هذا العذاب وهذا الوعيد في البرزخ في قبره، (ثم ويل الثانية يلقاها عند الموقف أمام الله عز وجل؛ والويل الثالثة يلقاها في النار).
وهذا ما يعرف بـ: (النكتة) فهو يكذب في الكلام من أجل أن يضحك الناس، وهذا من الكبائر، وعليه هذا الوعيد الشديد، وقول المناوي: (كرره إيذناً -يعني إعلاماً- بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه -أي: إلى الكذب- استجلاب الضحك الذي يميت القلب) بدليل ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجة في سننه، فإذا انضم إليه استحلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان، ويورد الرعونة؛ كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة؛ فهو ينكت ويضحك ويكذب أيضاً ليضحك القوم.
وقال المباركفوري في شرح هذا الحديث: (ثم المفهوم منه؛ يعني إذا كان هذا حق من يكذب ليضحك به القوم, فمفهوم المخالفة: أنه إذا حدث بحديث صدق ليضحك القوم فلا بأس) إن كان إنسان على سبيل الندرة ليس على سبيل العادة، وأن حياته كلها تكون هزلاً ومزاحاً وضحكاً؛ فإن كان يضحك القوم بحديث صدق فلا حرج في ذلك ولا ويل له، كما صدر مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين غضب على بعض أمهات المؤمنين.
وهو يشير بذلك إلى ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت -يعني واجم كأنه حزين- فقال عمر -في نفسه-: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك)، حاول أن يضحك النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى من حاله الذي يظهر منه الحزن (فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -يعني امرأته- سألت النفقة آنفاً فوجأت عنقها -يعني: أرادت أن أوسع عليها فقطعت عنقها- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) أراد سيدنا عمر أن يضحكه لكن بالحق وليس فيها كذب، (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها ليضربها.
وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها، كلاهما يقولان: تسألن النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضربهما، فقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده؛ قال: وأنزل الله عز وجل الخيار بسورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٢٨ - ٢٩]؛ فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـ عائشة فقال: إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:٢٨]؛ قالت: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال: إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً؛ لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها).
المقصود من الحديث: أن عمر رضي الله عنه هنا في هذا الحديث فعل فعل الإضحاك، وتعمد الإضحاك لكن بحق ولم يكذب.
فمفهوم الحديث: أن الذي يضحك القوم في الحق فلا حرج عليه، لكن الحرج فيمن يضحكهم بحديث الكذب.
وقال الغزالي: وحينئذ إذا أراد الإنسان أن يضحك القوم بحديث صدق فينبغي أن يكون من قبيل مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا أراد أن يمزح فليكن على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في مزاحه، فلا يقول إلا حقاً؛ ولا يأتي بمزاح إلا من المزاح الحق كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله) يعني: طلب منه أن يحمله على دابة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا حاملوك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق!) فأراد أن يداعبه النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه فهم أنه يريد ولد الناقة الصغير وهو لا يحمل، وهذا الحديث رواه الإمام أبو داود والترمذي.
وقال زيد بن أسلم: (إن امرأة يقال لها: أم أيمن، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك.
قال: ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض! فقالت: والله ما بعينه بياض، فقال: بلى إن بعينه بياضاً، فقالت: لا والله، فقال: ما من أحد إلا وبعينه بياض)؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي في عين كل إنسان وهو المحيط بالحدقة، أما هي فقد فهمت منه البياض الذي يكون على الحدقة.
وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج) كان إذا قدم من البادية يأتي معه بهدية، فإذا أراد أن يخرج من الحضر إلى البادية يعود لكي يجهزه النبي ويهديه هدية أخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديكم ونحن حاضره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، ولم يبصره زاهر، فقال: أرسلني، من هذا، فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه -فلم يعد يطلب أن يقول له: أرسلني- وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذن والله تجدني كاسداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (لكنك عند الله غال) وهذا الحديث رواته ثقات.
فسياق هذا الحديث يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليبيع رجلاً حراً، ولكن أراد بكلمة العبد: (من يشتري العبد)، يعني: عبد الله؛ وكلنا عبيد لله.
وأخرج الترمذي في الشمائل عن الحسن قال: (أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز؛ فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:٣٥ - ٣٧])، يعني: أنها تعود إلى صباها ولا تدخلها وهي على هيئة الشيخوخة.
وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين) يعني: يمازحه؛ لأن كل إنسان له أذنان.
وهذه الأحاديث حتى وإن لم يصح بعضها لكن جملتها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولكن بالحق ولم يكن يغلب عليه هذا المزاح.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقاً)، فهذا شأن النبوة، وفي هذا ينبغي أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الغزالي: (وحينئذ ينبغي أن يكون م