[تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)]
قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:١٥].
لما قال الله سبحانه وتعالى فيما تقدم: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [محمد:١٢] وصف هنا تلك الجنات المعدة للمتقين.
وقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) فـ (مثل) مبتدأ، وخبره قوله تعالى: ((كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا)) بتقدير حرف إنكار ومضاف، والمعنى: أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد؟! فالهمز للاستفهام الإنكاري، فيقدر في الأولى حرف الإنكار، وفي الثانية في قوله: (كمن هو خالد) عبارة: كمثل من هو خالد، ويمكن أن يكون المعنى: أمثَل الجنة كمثل جزاء من هو خالد، فلفظ الآية وإن كان بصيغة الإثبات إلا أنه في معنى الإنكار والنفي: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها) ثم قال تعالى: (كمن هو خالد في النار)، فصورتها ولفظها الإثبات، لكنها في الحقيقة يراد بها الإنكار والنفي، أي: ليس هذا كذلك؛ لانطوائه تحت كلام مقدر بحرف الإنكار، وانسحاب حكمه عليه، وليس في اللفظ قرينة على هذا، وإنما هي في السياق، وهذا من جزالة المعنى، وثَم أعاريب أخر.
قال القرطبي: وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (مثال الجنة التي وعد المتقون)، وقال الشوكاني: الجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة، وبيان ما فيها، ومعنى: (مثل الجنة) أي: وصفها العجيب الشأن، وهذا مبتدأ خبره محذوف كما بينا، قال النضر بن شميل: تقديره: ما يسمعون، وقدره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة التي وعد المتقون، قال: والمثل هو الوصف، ومعناه هنا: وصف الجنة التي وعد المتقون، وجملة: (فيه أنهار من ماء غير آسن) إلى آخره مفسرة لهذا المثل، وقيل: إن (مثل) زائدة، أي: الجنة التي وعد المتقون إلى آخره، وقيل: إن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله تعالى: (فيها أنهار)، وقيل خبره: (كمن هو خالد)، وهذا الذي ذكره القاسمي كما بينا.
(مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) أي: غير متغير الرائحة، والآسن من الماء مثل الآجن، وقد أسن الماء يأسن أسناً وأسوناً إذا تغيرت رائحته، ويأسن الرجل أيضاً إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك، فغشي عليه أو دار رأسه، قال زهير: قد أترك القرن مصفراً أنامله يميد في الرمح ميد المائح الأسن وقرأ الجمهور: (فيها أنهار من ماء غير آسن) بالمد، وقرأ حميد وابن كثير بالخفض: (غير أسن)، وهما لغتان كحاذر وحذر، وقال الأخفش أسن للحال، وآسن فاعل يراد به الاستقبال.
إذاً؛ فمعنى: (فيه أنهار من ماء غير آسن)، أنه ماء صافٍ لا كدر فيه.
(وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) أي: لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة، فلبن الجنة في غاية البياض والحلاوة والدسومة، وورد في بعض الآثار المقطوعة: (لم يخرج من ضروع الماشية).
ثم قال تعالى: (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل هي حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل، ومعنى: (الفعل) أي: حسنة الأثر، فقد نزه الله خمر الجنة، بقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:٤٧]، وقال: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩]، وقال: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:٤٦].
وفي بعض الآثار: (لن تعصرها الرجال بأقدامها).
إذاً: فوصف خمر الجنة بهذه الأوصاف يقتضي نجاسة خمر الدنيا كما ذهب إليه جمهور العلماء، فالله سبحانه وتعالى وصف خمر الجنة بأنه شراب طهور، أي: أنه ليس بنجس كخمر الدنيا، (وأنهار من خمر لذة للشاربين)، وهذا فيه تنويه بخمر الدنيا من حيث حكم مظهرها وطعمها ورائحتها وفعلها، أي: أن أثرها لا يسلب العقل كما تفعل خمر الدنيا، ولذلك فإن من ترك الخمر في الدنيا لله فإنه يثاب بالشرب من خمر الآخرة، وكذلك من امتنع من لبس الحرير في الدنيا فإنه يثاب بلبسه في الجنة، وهكذا: (من ترك شيئاً لله عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه).
(وأنهار من خمر لذة للشاربين) لذة: قراءة الجمهور بالجر على أنها صفة للخمر، وقرئ بالنصب: (لذةً للشاربين) على أنه مصدر أو أنه مفعول له، وقرئ بالرفع: (لذة للشاربين)، فيكون صفة لأنهار.
قال الطبري: فأما القراءة فلا أستجيزها إلا خفضاً لإجماع الحجة من القراء عليها.
(وأنهار من عسل مصفى)، والعسل يذكر ويؤنث.
قال القرطبي: العسل ما يسيل من لعاب النحل، أي: ما يفرزه النحل، (مصفى) أي: مصفى من الشمع، ومصفى من القذى، خلقه الله سبحانه وتعالى كذلك لم يطبخ على نار، ولا دنسه النحل.
وفي سنن الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد) أي: تتفرع منها الأنهار بعد ذلك، قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة).
وفي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، وقد أخذ البعض من هذا الوصف للفردوس أن الجنة -من حيث الخلق- كروية؛ لأن الأوسط لا يكون أعلى إلا فيما هو كروي.
(ومنه تفجر أنهار الجنة)، وهذا هو الشاهد في موضوعنا.
(ولهم فيها من كل الثمرات)، كقوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:٥٥]، وقوله عز وجل: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:٥٢] يعني: لأهل الجنة في الجنة، وذلك مع ما ذكر من الأشربة من كل صنف من أصناف الثمرات، (ولهم فيها من كل الثمرات) (من) هنا زائدة للتوكيد، قاله القرطبي.
(ومغفرة من ربهم) أي: ومع ذلك كله مغفرة من ربهم لذنوبهم، ونُكِّرت (مغفرة) لأجل تعظيم هذه المغفرة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من ثوابهم المعنوي، فالجنة فيها كل أنواع النعيم كما قال تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧]، وأما ما يشتغل به بعض الجهلة والملاحدة من الكفار والمستشرقين وأذنابهم من أنهم يمنعون على القرآن الكريم أن يعد المؤمنين بالمتاع والطعام والشراب والفاكهة في الجنة، فهذا بلا شك جهل منهم؛ لأنهم أصلاً ليس عندهم وصف للجنة، وليس لديهم تفصيل بذلك كما بينه الله سبحانه وتعالى في هذه الرسالة الخاتمة، وإنما عندهم أن الإنسان الذي يثاب فإن ذلك يكون بألا تخرج منه الروح فقط، فتطلع روحه إلى السماء ثم ترجع وإلى جسده، وأما في الإسلام فمعلوم أن الإنسان مركب من روح وجسد، فالروح لها متاعها، والجسد له متاعه، ولا ينكر شيء من هذا على الإطلاق، ثم إن آدم وحواء كانا في الجنة، ثم خرجا بسبب مخالفة أمر الله تعالى بعدم القربان من الشجرة، فهذا الأمر متفق عليه بيننا وبين أهل الكتاب، فهم يؤمنون أنهما كانا في الجنة، إذاً: فأهل الجنة يأكلون، لكنهم يتنزهون عن الأنجاس والأوصاف التي تكون في الدنيا، فمتاع الدنيا لابد أن يوجد فيه ما يكدره، ولا يوجد شيء من متاع الدنيا صافٍ، فقد يحب الإنسان نوعاً معيناً من الفاكهة، لكن قد يجد فيها ما يكدره ويضايقه، فعلى الإنسان أن يفتقد أن الدنيا دار متاع، وأن ما يوجد من هذا المتاع فإنه لمجرد التنبيه إلى لذات الآخرة الحقيقية الدائمة، فعامة لذات الدنيا لابد فيها من مكدر، وذلك إما بالنصب والتعب في تحصيلها، وإما ببعض المشاق في إعدادها للطعام وغير ذلك، فالدنيا ليست دار نعيم مطلق، وإنما هي دار ابتلاء، وكما قال تبارك وتعالى في النار مثلاً: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:٧١ - ٧٣]، فبين عز وجل أن الحكمة من خلق النار (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين) أي: إذا رأوها تذكروا نار الآخرة، و (متاعاً للمقوين) أي: متاعاً للاسترفاه، ولإنضاج الطعام، وللإضاءة وغير ذلك من منافع النار، لكن الهدف الأساسي والغاية الأولى هي: (تذكرة) أي: رأيتموها تذكرتم نار الآخرة، وكذلك إذا رأى الإنسان نعيماً في الدنيا فإنه يذكره بنعيم الآخرة، فلذلك جعلت عامة الشهوات مقرونة بالأوجاع والآلام والمكدرات؛ تنبيهاً إلى أن هذه الدار ليست هي دار النعيم، وإنما هي دار قرن ما فيها من نعيم بما يكدره وينغصه، فالإنسان إذا لم يذق هذا المتاع فإنه لا يستطيع أن يتخيل متاع الدنيا، فإذا وجد أي نوع من أنواع هذا المتاع في الدنيا فإنما هو لتنبيه الإنسان على أن في الجنة ما هو أعظم منه، فقوله هنا: (ومغفرة من ربهم) هو نوع من أنواع نعيمهم الروحي، وجزائهم المعنوي، وقال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:٧٢] وقد تو