يلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر عداوته على عداوة المؤمنين:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)) فذكْرُ المقابلة هنا بين: عدوي وعدوكم فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل؛ لأن العداوة تتنافى مع الموالاة، وتتنافى أيضاً مع المسارة للعدو بالمودة.
قال الفخر الرازي في سر تقديم (عدوي) على (عدوكم): سر التقديم أن عداوة العبد لله بدون علة، فالذي يعادي الله سبحانه وتعالى ليس له علة تعلِّل هذه العداوة، أما عداوة العبد للعبد فإنما تكون لعلة.
يقول: وما كان بدون علة -يعني: كعداوة الكفار لله- فإنه يقدم على العداوة التي تكون لِعلة، وهي عداوة الناس بعضهم لبعض.
ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، يعني: أن من عادى الله فإنه بعد ذلك يعادي أولياء الله، وعداوة العبد لله أشد قبحاً من عداوته لعبد مثله؛ فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم، وآذوهم، فلا يتصور أن يعادي عبدٌ الله سبحانه وتعالى وهو مفتقر في وجوده إلى الله، فهو الذي خلقه، ورزقه، ووهبه الحياة، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة، فلم يأته من الله سبحانه وتعالى إلا كل خير، فمقابلة هذا الإحسان الذي لا إحسان مثله بالعداوة لا شك أنه أقبح ما يكون، ولذلك روي في بعض الأحاديث الإلهية:(إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر غيري)، وفيه أيضاً:(خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي!) وهذا الحديث وإن لم يصح فإن معناه صحيح.
كما أن تقديم عداوة الله سبحانه وتعالى على عداوة الخلق يؤكد بأنها هي السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، فإن العداوة التي تقع بين المؤمنين والكافرين إنما هي ناشئة عن عداوة الكفار لله تبارك وتعالى، فتراهم يسبون الله، ويشركون به، ويكذبون أولياءه، فلما كانوا أعداء لله وجب على المؤمنين أن يتخذوهم أيضاً أعداء.
والدليل على تقديم عداوة الله على عداوة المؤمنين، وأنها هي الأصل: أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عداوتهم لله لأصبحوا إخواناً للمؤمنين كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}[التوبة:١١] فبمجرد التوبة، والدخول في الإسلام، والانقياد لشرع الله؛ يصبحون إخواناً للمؤمنين، وتنتفي العداوة بينهما، فقد جعل هذا الأمر مغياً لغاية في قوله تعالى:{فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء:٨٩]، ومثله أيضاً قول الله تعالى في قوم إبراهيم:{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة:٤] فإذا آمنوا بالله صاروا بالتبع إخواناً لهم، وانتفت هذه العداوة، فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون انتفت العداوة، وحلت محلها الموالاة، فسبب النهي عن موالاة الأعداء هو الكفر.