[الأحكام المستفادة من الأمثال المضروبة في سورة التحريم]
قال في الإكليل: استدل بقوله تعالى: ((اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ)) على صحة أنكحة الكفار.
أقول: ويستدل بقوله تعالى: ((اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ)) إلى قوله: ((فَخَانَتَاهُمَا)) على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع، وهو جلي، وأيضاً العكس.
يعني: لو أن رجلاً طرأ عليه فسق لم يجب أن ينفصل عن امرأته؛ لأن العبرة بالكفاءة في التدين عند العقد، كما ذكرنا هذا بالتفصيل في سورة النور: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٣] فيحرم على العفيف أن يتزوج الفاسقة الفاجرة أو العكس.
وإذا تزوج رجل صالح بامرأة صالحة ثم طرأ الفسق على الرجل، فهذا لا يستوجب فسخ النكاح أو الفراق؛ لأن العبرة بأن يكون العقد صحيحاً عند العقد نفسه، أما بعد ذلك فيجوز استدامة هذا النكاح، وإن كان على الرجل أن يسعى بكل الأسباب في علاج هذا الفسق الذي طرأ عليه وإصلاحه.
ثم يقول: ويستدل بذلك أيضاً على أن نكاح المشركات كان جائزاً في شرع من قبلنا، وقد حظره الإسلام أشد الحظر كما مر في آيات عديدة.
وقال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون: ((رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع.
وكما يقولون: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، فانظر فيمن تصاحبه أو تسافر معه.
وقال الزمخشري: في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من شيم الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين.
قوله تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ)) أي: فزعت إلى دعاء الله والاستعاذة به في هذه الكربة التي حلت بها، من هذا الزوج الذي هو أكبر الكفار.
قوله: ((رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) قدمت أولاً الطلب الأخروي، ثم بعد ذلك طلبت العافية في الدنيا.
إذاً: الفزع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعاذة به والالتجاء إليه عند المحن والنوازل من سيرة الصالحين التي ينبغي أن نقتدي بهم فيها، ومن سنن الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:١١٨] وقال تعالى أيضاً حاكياً دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:٨٥ - ٨٦] وهذه الآيات تدل على أنه كان لهم اهتمام بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنهم قدموا طلب سلامة الدين أولاً ثم طلبوا سلامة الدنيا.
والله أعلم.