[الحجج على أن السنة وحي من عند الله عز وجل]
يقول ابن القيم: وقد احتج الشافعي لذلك بقوله: لعل من حجة من قال بهذا قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:١١٣]، والعطف هنا يدل على المغايرة، أي: أن الكتاب غير الحكمة، وأرسى قاعدة، وهي: أنه متى ما ورد الكتاب مقترناً بالحكمة في القرآن الكريم في سياق الامتنان على هذه الأمة أو على النبي صلى الله عليه وسلم، فالحكمة هي السنة باتفاق السلف.
فـ الشافعي قال: لعل من حجة من قال بهذا قوله: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:١١٣].
إذاً: (الحكمة) معطوفة على (كتاب)، والكتاب أنزله الله، فتكون الحكمة أيضاً أنزلها الله.
قال: ولعل من حجته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم-: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والخادم ردٌّ عليك) إلخ الحديث.
وذكر أيضاً جملة من الأحاديث والآثار سوف نذكرها.
وقال الشافعي: أخبرنا مسلم -يعني: ابن خالد الزنجي - عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أن عنده كتاباً نزل به الوحي، وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقه وعقول فإنما نزل به الوحي.
والعقول: جمع عقل، والمقصود بها الدية.
وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياه.
وذكر الأوزاعي أيضاً عن أبي عبيد صاحب سليمان قال: أخبرني القاسم بن مخيمرة قال: حدثني ابن نضيلة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (سعر لنا، قال: لا تسألني عن سنة أحدثها فيكم لم يأمرني الله بها، ولكن سلوا الله من فضله) وابن نضيلة هذا يسمى طلحة.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، وهذا هو السنة بلا شك، وقد قال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:١١٣]، وهما القرآن والسنة.
فنحن نقول: إن (هو) تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل (ينطق)، فقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ} [النجم:٣ - ٤] يعني: إن نطقه {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤]، وهذا أرجح من قول من قال: إن الضمير يعود إلى القرآن الكريم، وهذا هو أولى الأدلة على أن السنة وحي؛ لأن الأدلة على هذا أدلة من القرآن وأدلة من السنة، وليس فقط مرسل حسان بن عطية، إذ ليس هناك أي قضية متوقفة على كلمة حسان بن عطية.
ومن الأدلة قول الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولَاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:١٥١]، الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتاب (الإحكام): قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤]، وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:٥٠] وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩].
وبعض المفسرين وبعض الأئمة كالإمام عبد الله بن المبارك فهم أن الذكر هنا أيضاً يعم القرآن والسنة، ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام عبد الله بن المبارك يذكر له الأحاديث الموضوعة التي يضعها بعض الناس، فرد عليه قائلاً: (تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩])، فيفهم من ذلك أن الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كان يرى أن (الذكر) يشمل القرآن ويشمل السنة.
إذاً: هناك تنزيلان: تنزيل نزل أولاً.
ثم تنزيل آخر أتى مبيناً لهذا الذي أنزل أولاً، فقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ)، أي: السنة (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي: القرآن الكريم، يعني: أن السنة تبين القرآن.
يقول ابن حزم بعدما ذكر هذه الجملة من الآيات: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك.
وتأملوا في هذا الضابط وهذا القيد في قوله: (أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله)، ثم قال هنا: (في الدين)، ليخرج الكلام الذي يكون في الدنيا، كما قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ويخرج أيضاً الأمور التي حصل فيها اجتهاد، يعني: وإذا قلنا: إنه يجتهد ويخطئ في الاجتهاد فالوحي لا يسكت أبداً على هذا، وإنما يصحح له ويبين له الحقيقة.
يقول: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع، وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه.
وربما يقول قائل: كيف تقول: إن السنة كلها محفوظة أيضاً كالقرآن، ولا يمكن أن تضيع على جميع الأمة؟ والجواب هو: أن الأحاديث قد تلتبس على بعض الناس، إذ قد يلتبس الضعيف بالصحيح، ولكن نقول: إنما يلتبس على الجهلاء، أما المختصون وأما أهل الحديث فإنها لا تلتبس عليهم.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الروح): والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، ولا ينكره إلا من ليس منهم، فيا ويل أعداء السنة! وقد سئل ابن المبارك عن هذه الأحاديث الموضوعة! فقال: (تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]) وإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس.
وتخيلوا إذاً ما قاله العقيد القذافي مثلاً من الضلالات التي قالها في شأن السنة، وأنه يريد أن يفهم القرآن فقط.
ولا يخرج هذا الكلام إلا من ناس مهووسة ومتهمة في عقولها، سواء كانوا من الكتَّاب أو المفكرين أو الضالين، بل كثيراً ما كانت تبدأ فكرة ادعاء النبوة بنفي السنة أولاً، بل هذا شأن كل من يدعون النبوة تقريباً، وهذا ما قاله شيخنا العلامة الشيخ بديع الدين السندي رحمه الله تعالى، فإنه كان يقول: إن تفتش في سيرة الذين يدعون النبوة تجد كثيراً منهم تقدم ادعاء النبوة بالتكذيب بالسنة.
وهذا فعلاً نجده كثيراً، كما في مسيلمة السودان المدعو: رشاد خليفة، فهو بدأ بإنكار السنة، وقال: هذه السنة وحي من الشيطان! إلى آخر خزعبلاته، ولا نضيع الوقت بذكرها.
فكثير ممن يدعون النبوة يبدءون أولاً بهدم السنة؛ لأن السنة سوف تأتي له بصداع، فإنه يسمع الناس تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي)، وغير هذا من الأدلة، بخلاف أدلة القرآن فإنها قد تكون طيعة في يد صاحب الهوى، كما يقول الشاعر: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل لأن القرآن يحمل أوجهاً شتى، فالقرآن محتاج إلى السنة كي تبينه وتفصله وتوضحه، فمن أجل ذلك فهم يريدون أن يسدوا باب السنة؛ ليبتدعوا ما يريدون، ولذلك وجدنا بعض هؤلاء الضالين يقول: إن الصلاة لا تجب إلا ركعتين في الصبح وركعتين في الليل! ويزعمون أنهم يستدلون بفهمهم السقيم للقرآن.
فحفظ الإسلام لا يتم ولا يُحفظ إلا بحفظ القرآن، والقرآن لا يُحفظ إلا بحفظ السنة، ولا شك في ذلك.
يقول: فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة، وأن يتعهد ببقائها.
فلابد أن تُحفظ السنة أيضاً كي يُحفظ القرآن، وحتى لا يحصل إلحاد في فهم آيات الله تبارك وتعالى.