[تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى)]
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمة: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:٣٣ - ٤١].
(تولى) أي: رجعل وأدبر عن الحق.
(وَأَعْطَى قَلِيلَاً): قال بعضهم: أعطى قليلاً من المال.
وقال بعضهم: أعطى قليلاً من الكلام الطيب.
(وَأَكْدَى)، أي: قطع ذلك العطاء ولم يتمه، وأصله من أكدى صاحب الحفر، يقال: أكدى إذا ظل يحفر حتى اصطدم بصخرة لا يقدر على الحفر فيها، فينقطع عن الاستئناف وتكملة الحفر.
وأصله من الكُدَية، وهي: الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه، فتمنعه الحفر.
وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى: اختلف فيه العلماء: فقيل: هو الوليد بن المغيرة؛ قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين، فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك، وأعطى الذي عيَّره بعض ذلك المال الذي ضمن، ومنعه باقي هذا المال، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى}، يعني: بعدما كاد يقبل على الإسلام، {وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى}، يعني: أعطى هذا الذي ضمن له أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، (وَأَكْدَى) يعني: توقف عن استئناف العطاء وتكملة المال المتفق عليه.
وقيل: ((وَأَعْطَى قَلِيلَاً)) من الكلام الطيب، كمدحه للقرآن واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَأَكْدَى)) أي: انقطع عن ذلك ورجع عنه.
وقيل: هو العاص بن وائل السهمي، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وذلك هو معنى إعطائه القليل، ثم انقطع عن ذلك، وهو معنى إكدائه، وهذا قول السدي، ولم ينسجم مع قوله بعده: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم:٣٥] إلخ.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: إنه أبو جهل، قال: والله! ما يأمرنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بمكارم الأخلاق.
وذلك معنى إعطائه القليل، وقطعه لذلك معروف.
يعني: فيما حصل منه من أذية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلا ينبغي أن نفرح حينما نجد كافراً من الكفار ينطق ببعض الكلمات التي فيها بعض الإنصاف للإسلام أو للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لا ينبغي أن نتجاوز بمثل هذا الإنسان قدره؛ لأنه حتى إذا أعطى قليلاً لكنه يُكدي، ولا يكمل الرحلة، فنجد بعض الناس يفرحون بقول بعض الكفار من الأمريكان في كتابه: العظماء مائة، أعظمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهل نحن نقول: لا إله إلا الله، محمد عظيم، عليه الصلاة والسلام؟! ونشهد أن محمداً عبقري، وأنه أعظم مائة عرفهم التاريخ؟! وهل عظمة النبي عليه السلام وعبقريته محل خلاف؟! كل محور الخلاف هو: هل هو نبي يُوحى إليه أم لا؟! هذا هو جوهر القضية، فكل إنسان مهما نطق بمعسول من القول ولم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهو من أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو باقٍ في الكفر، صحيحٌ أنه أحياناً ينفع الاستدلال بهذا الكلام؛ لكن أقول: الناس تجازف وتغالي في المدح والثناء في حين أنه ينطبق عليه هذه الآية، فهو حينما يمدح الإسلام فهو يقرر أمراً واقعياً، فهذا دين الله عز وجل وليس مذهباً أرضياً ولا مذهباً فكرياً، بل هذا نظام إلهي ووحي إلهي.
فحينما يفعل كافر شيئاً من هذا أو تسمعون تصريحاً لكافر تذكروا دائماً هذه الآية، خاصة على هذا التفسير.
أما الزمخشري فاقتصر على أن المقصود بالآيات -ولا حول ولا قوة إلا بالله! - عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح -وهو أخوه من الرضاعة- يوشك ألا يبقى لك شيء! فقال عثمان رضي الله عنه: إن لي ذنوباً وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى، وأرجو عفوه.
يعني: كأنه لم يستجب لهذا الكلام، كعادة الكريم؛ لأن الكريم لا يستفيد من التجارب، كما يقول البعض: الكريم لا تنفعه التجارب، ولا يستطيع أبداً أن يقاوم الرغبة في البذل والتضحية والإنفاق.
فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن العطاء، فنزلت الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى} [النجم:٣٣ - ٣٤]، يعني: لم يتم له العطاء.
يقول: فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
أي: لا يليق هذا حتى وإن كان يمدح عثمان بالنفقة، لأن السياق يقول: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٥ - ٣٩]؟! فهذا شيء لا يُقبل في شأن أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين المهديين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فهذا قول ساقط، ولا يمكن أن يصح.