[كلام ابن القيم في كتابه زاد المهاجر عن مدح الله وثنائه على إبراهيم في سورة الذاريات وغيرها]
تكلم ابن القيم في موضع آخر عن قول الله تعالى:((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) إلى قوله: ((إنه هو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)) فقال رحمه الله: فعهدي بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها، فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام عليم، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك، ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك، فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار، وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم، وكيف جمعت الضيافة وحقوقها، وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة، وكيف تضمنت علماً عظيماً من أعلام النبوة، وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة، وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم أفصحت وقوعه، وكيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة.
إلى أن قال رحمه الله تعالى: افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام، ولهذا قال بعض الناس: إن (هل) في مثل هذا الموضع بمعنى قد التي تقتضي التحقيق.
أي: مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:١] ثم قال: ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ومعنى بديع، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به وإحضار الذهن له صدر له الكلام بأداة الاستفهام؛ لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به، فتارة يصدره بألا، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر).
ثم قال: وتارة يصدره بهل كقوله: هل علمت ما كان من كيت وكيت، إما مذكراً به، وإما واعظاً له مخوفاً، وإما منبهاً على عظمة ما يخبر به، وإما مقرراً له.
فقول الله تعالى:{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}[النازعات:١٥]، وقوله تعالى:{َهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ}[ص:٢١]، وقوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية:١]، وقوله هنا:((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفة ما تضمنته.