للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التعجل في ذبح الهدي قبل وقته بسبب الجهل]

هنا موضوع مهم: وهو أن بعض الحجاج -نتيجة قلة العلم، وعدم التحقيق في المسائل، ووجود من يفتي بغير علم- يكونون جائعين ويريدون أن يأكلوا من لحم الهدي، فيقولون: بدل ما ننتظر ثم نشرع في مناسك الحج ثم نذبح، فنحن نتعجل الآن فنذبح الهدي! فيجيز لهم بعض الجهلة الذبح قبل يوم النحر، والراجح أن المتمتع والقارن لا يجوز لهما الذبح قبل يوم النحر، وهذا هو قول الجمهور خلافاً للشافعية، فإنهم يجيزون الذبح قبل يوم النحر.

والأدلة على أنه لا يجوز أبداً أن يذبح المتمتع أو القارن قبل يوم النحر كثيرة منها: أولاً: قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:١٩٦] وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لم يبلغ محله إلا يوم النحر.

ثانياً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعاً، وعليه جرى عمل الخلفاء الراشدين، والمهاجرين والأنصار، وعامة المسلمين، ولم يثبت عنهم خلاف ذلك ألبتة.

ثالثاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، فالفعل المبين يكون واجباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) يعني: الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧] ولم يخصص، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) كما قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فيجب الاقتداء به في هذا الفعل في نوعه وزمانه ومكانه، ما لم يكن هناك قول من الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من الفعل، فحينئذ فهذا أمر آخر، لكن إذا كان فعل الرسول عليه الصلاة والسلام أتى بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، فمادام الفعل المبين واجب، فما يبين مناسك الحج واجبة، فالفعل الذي يبين هذه المناسك يكون أيضاً واجباً، فيجب أن نقتدي بفعل النبي عليه الصلاة والسلام في نوعه وزمانه ومكانه، إلا إذا أتى قول من النبي عليه الصلاة والسلام أعم من الفعل، فمثلاً النبي صلى الله عليه وسلم وقف على جبل الرحمة عند الصخرات، وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف)، فلو أنه لم يقل ذلك لكان فعله بياناً للواجب الذي هو الوقوف، بل هو ركن الحج الأعظم، ولو لم يقل ذلك لوقعت المشقة العظيمة على الأمة! لكنه قال: (وقفت هنا) يعني: هذا فعل مني وبيان للوقوف بعرفة أنه يكون هنا، ثم قال: (وعرفة كلها موقف) وهذا بيان عام بالقول أعم من الفعل، ففي هذه الحالة لا يكون الوقوف في هذا المكان بالذات واجباً، وإنما يجزئ أن يقف الحاج في أي مكان في عرفة.

ومثله أيضاً قوله: (مزدلفة كلها موقف) مع أنه وقف عند المشعر الحرام، ثم بين أن مزدلفة كلها موقف توسعة على الأمة.

كذلك قول النبي عليه السلام: (نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة وطرقها منحر) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فلو لم يقل ذلك لوجب أن ننحر في نفس المكان الذي نحر فيه؛ لأن فعله أتى بياناً لعبادة واجبة في الحج وهي النحر.

فينبغي أن نقتدي به في الفعل، وإذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب إذا كان الفعل المبين واجباً، فالمبين تابع للمبين في حكمه، فيجب الاقتداء به في الفعل في نوعه وزمانه ومكانه، إلا إذا أتى قول أعم من الفعل فحينئذ لا يكون ذلك واجباً، كما في قوله: (نحرت ههنا ومنى كلها منحر)، ففي هذه الحالة لا نتقيد بالمكان الذي نحر فيه، فلا يختص حينئذ الحكم بنفس محل موقفه أو نحره، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١].

رابعاً: قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:٢٨]، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:٢٩] ومن التفث: الحلق والتقصير؛ لأن التفث هو: الوسخ والقذر، فإزالة التفث بقص الأظفار والتنظف والحلق والتقصير، وفي الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك).

إذاً: وقت الذبح مخصص بأيام معلومات دون غيرها؛ لأن الله قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:٢٨]، فوقت الذبح مطلق لكنه مخصص بأيام معلومات دون غيرها، وذلك أنهم يتقربون إلى الله بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات، وهذا أظهر في الهدايا لا الضحايا التي لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين؛ ليأتوا رجالاً وركباناً ويذبحوا ضحاياهم، فيقول عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:٢٨]، وقال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩].

ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا لم يتحلل من عمرته؟! قال: (إني لبدت رأسي) يعني: ألصق شعر رأسه بعضه ببعض بمادة صمغية مثل العسل بحيث لا ينتتف أثناء الإحرام.

(إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) متفق عليه من حديث حفصة، فلو جاز النحر قبل ذلك لأحل بعمرة ونحر، مع أنه تمنى أن يعتمر ويحل منها، ثم يحرم بالحج كما أمر أصحابه بذلك.

إذاً: فعل النبي عليه الصلاة والسلام كالتفسير لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:١٩٦]، وخلاصة الكلام: لا يجوز ولا يجزئ أن ينحر الإنسان أو يذبح قبل يوم النحر كما يفعله بعض الناس في الأيام التي هي قبل اليوم العاشر من ذي الحجة، تلبية لنداء بطونهم!