[تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)]
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:٩١].
ولما بين تبارك وتعالى شأن القرآن العظيم، وأنه نعمة كبرى على العالمين أتبعه ببيان كفرهم بذلك على وجهٍ سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:٨٩ - ٩٠]، فبيَّن لهم النعمة الكبرى التي هي القرآن الكري بقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين)، ومع ذلك كفروا به، فقال عز وجل: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا)) لما جاءتهم نعمة القرآن والوحي (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
قوله: (وما قدروا حق قدره) يعني: ما عظموه حق تعظيمه.
وكلمة (حق) في قوله تعالى: (حق قدره)، منصوبة على المصدرية؛ لأن أصلها (وما قدروا الله قدره الحق)، فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه.
وقوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) يعني: حين اجترءوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، إذ طاوعتهم قلوبهم أن يقولوا هذه الكلمة، يعني أن قول هذه الكلمة يعكس أنهم ما قدروا الله وما عظموا الله حق تعظيمه تبارك وتعالى، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا ينفون نزول القرآن على الرسول عليه السلام فقط، وإنما ينفون أصل إرسال الكتب من الله سبحانه وتعالى إلى جميع الأنبياء مبالغة في نفي الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً، حيث قيل في جواب سلبهم العام لإثبات قضية جزئية بديهية التسليم: ((قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ)) أي: ضياءً من ظلمة الجهالة وبياناً يفرق بين الحق والباطل ((تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا)) أي أنهم كانوا يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه، فكيف ينكر إنزال شيء وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان موجود في قراطيس؟! أي: في أوراق مكتوبة.
وعدل عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته فقال: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) ولم يقل: قل: من أنزل التوراة.
ثم مدح الكتاب بقوله: (نوراً وهدى للناس) فكل هذا لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر.
وقوله تعالى: (وتخفون كثيراً) أي: تبدونها وتخفون.
أي أن قوله تعالى: (تخفون) معطوف على (تبدونها) والعائد محذوف، فقوله: (وتخفون كثيراً) أي: كثيراً منها.
ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، وبالمعترف لديهم بأحقيته، وفيه نعي على أهل الكتاب لسوء صنيعهم المذكور؛ إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين.
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام:٩١] يعني أهل الكتاب، (وعلمتم) يعني: على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم (ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) يعني: من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني، ومن الذي أنزل هذا؟ (قل الله) أي: أنزله الله.
أو: الله أنزله.
وأمره بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، يعني أنه يسألهم السؤال ثم يجيب، إشارة إلى أن الجواب متعين، ولا يحتمل أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب، وتنبيهاً على أنهم بهتوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب، فتولى هو الجواب فقال: (قل الله) يعني: هو الذي أنزل هذا الكتاب.
وقوله: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) أي: بعد التبليغ وبعد إلزامهم الحجة (ذرهم) أي: اتركهم (في خوضهم) أي: باطلهم (يلعبون) أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضرراً، مع تضييع الزمان، وهذا هو حال اللاعب، فهذا حال هؤلاء الذين كفروا بالقرآن الكريم، وهو أنهم يفعلون فعل اللاعب، واللعب لا يجر للإنسان نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً، بجانب أنه يضيع عليه الوقت والزمان.
وهذه الآية فيها قولان: القول الأول: أنها مكية النزول تبعاً للسورة؛ لأن سورة الأنعام مكية، وأن القائل: (ما أنزل الله على بشر من شيء) هم المشركون، وإلزامهم بإنزال التوراة لأنها كانت عندهم من المشاهير الذائعة، فألزمهم بإنزال التوراة؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى اليهود على أنهم أعلم منهم، وأنهم أهل كتاب، وكانوا يعرفون بالتوراة، هذا هو الظاهر.
وقال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش.
قال ابن كثير: وهو الأصح.
وهذا اختيار الإمام ابن جرير؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، ولأن اليهود ما قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شيء) وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر، كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس:٢]، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:٩٤]، وكذلك قالوا هنا: (ما أنزل الله على بشر من شيء).
إذاً: يكون المقصود بها كفار قريش لا أهل الكتاب.
فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم وإيقافاً على عنادهم، ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش بأنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجل هذا الكتاب، مما يوجب اعترافهم بأحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى.
القول الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، ولا يرد أن هذه السورة مكية، فلا إشكال في أن تكون السورة مكية في العموم، لكن يكون فيها بعض الآيات مدنية؛ لأن مناظرات اليهود إنما جرت في المدينة النبوية، ولأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم: هذه السورة مكية يعني أنها سورة مكية إلا ما استثني مما ألحق بها.
والقائلون بأنها مدنية قالوا: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص أو في مالك بن الصيف.
وذكر المفسرون لكلٍ من هذه الأقوال قصصاً تؤيد قولهم.
وقال أبو السعود رحمه الله تعالى: ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط -أي: في قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) - بل إلزامهم بإنزال القرآن أيضاً، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً؛ لأن التوراة تشهد للقرآن الكريم، ولأن التوراة فيها أدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة.
فقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تجعلونه في قراطيس، وحذف حرف الجر بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو: تجعلونه نفس القراطيس المقطعة، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، يعني أنهم يجعلونه قراطيس لكي يظهروا البعض ويكتموا البعض الآخر.
وقوله تعالى: (تبدونها ويخفون كثيراً) يعني: يبدونها ويخفون، دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الديني عمن يهتدي به.