للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات)]

يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:٢٥]، أي: بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه، فإن الرسل تأتي مؤيدة بالمعجزات والبينات والحجج على صدقهم في دعواهم الرسالة.

((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ) أي: التام في الحكم والأحكام.

((وَالْمِيزَانَ) أي: العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.

قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة.

((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي: بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، فالتنزيل عبارة عن خبر وحكم، أما أخباره فكلها صدق، وأما أحكامه فكلها عدل.

فقوله تعالى: ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))، إشارة إلى أن الحق والعدل لا يمكن أن يكونا فيما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما زين شياطين الإنس دعاواهم بافتراءاتهم الظالمة فيما يوشوش به بعض الشياطين مما يسمونه بحقوق الإنسان أحياناً، ويحاولون إظهار الإسلام كأنه عدو لحقوق الإنسان، وأن العقوبات الشرعية عقوبات وحشية وصارمة إلى آخر هذا الإلحاد! وهذا كفر، ولا يصدر إلا ممن لا يؤمن بمثل هذا الوصف لكتاب الله تبارك وتعالى.

والناس لا يمكن أن يقوموا بالقسط ولا يمكن أن يتحقق بينهم العدل إلا بتطبيق شرع الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال تعالى بعدما ذكر الحدود الشرعية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:٤٥]، لأن هذا هو الحد، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥]، ففي هذه بالذات وصفهم بالظلم؛ لأن هذا مما يخالف العدل، فالحدود هي العدل، والقصاص فيه المعاملة بالمثل، فمن اعتدى على أرواح الناس وقتل يقتل، ومن قطع أذن غيره تقطع أذنه، فليس لهذا حرمة أعظم من حرمة ذاك، فهذا مقتضى العدل بين الناس؛ فلذلك نقول قطعاً وجزماً: إن كل من يحكم بخلاف شرع الله فهو ظالم مهما وسوس له إخوانه من شياطين الإنس أو الجن بأن هذا هو العدل.

ونقول: كل العدل في كتاب الله تبارك وتعالى.

ويقول تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يعني: أن هذا الحديد هو الآلة المهمة والأساسية في صناعة أدوات القتال، سواء في القديم أو في الحديث، فقوله: ((فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يعني: القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه.

((وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أي: في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها.

فإن قيل: هذه الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة؛ ولكن أين هي المناسبة بين قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}؟ ف

الجواب

أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا حتى تنال السعادة في الأخرى، فمن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، وكذلك من أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، ومن تمرد وطغى ضرب بالحديد الراد لكل مريد.

فقول الله تبارك وتعالى هنا أولاً: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) مع ذكر الحديد فيه إشارة إلى أن العدل في الناس يقوم بأمرين: بالقرآن وبالسلطان، فالناس يدعون بالحجة والبيان، فمن أبى فبالسيف والسنان.

هذا هو المعنى المأخوذ من هذه الآية الكريمة.