[تفسير قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم)]
قا الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩].
قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) أي: توطنوا دار الهجرة وهي المدينة.
((وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل مجيء المهاجرين إليهم، فالكلام هنا في الأنصار، وعطْف الإيمان على الدار بتقدير عامل، والعامل هنا فعل، أي: والذين تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان.
وقيل: استُعمل التبوّء في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكّن، والمعنى: لزموا الدار والإيمان.
فالمقصود: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) أي: لزموا الدار، وهي دار الهجرة بالإقامة فيها والاستقرار، ولزموا أيضاً الإيمان بأن ثبتوا عليه ولم يتحولوا، وجُوَّز أيضاً تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكن فيه، وكأن الإيمان نفسه مكان يستقر فيه الإنسان.
قوله: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) أي: لوجود الجنسية في الصفاء والموافقة في الدين والإخاء؛ وذلك لأن المحبة لا تكون إلا عن تناسب، وكلما كثرت وجوه المناسبة والائتلاف والتوافق ازدادت هذه المحبة، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:٢١]، فلم يجعل الله تعالى هؤلاء الأزواج من الجن مثلاً، أو من خلق غير الإنس، وإلا لما وجد هذا التناسب، فقوله: ((مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)) يشير إلى هذا التناسب وهذه الموافقة، وكذلك كل محتابين تزداد المحبة بينهما كلما ازداد هذا التناسب والتوافق.
وكذلك هنا؛ فهؤلاء الأنصار إنما أحبوا المهاجرين لوجود أعظم أسباب الجنسية والتناسب والموافقة، ألا وهي أخوّة الإيمان.
((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) مع أنهم من غير بلادهم، ولا يكون ذلك إلا بسبب أخوّة العقيدة.
وتأملوا فيما حصل بعد ما يقارب خمسين سنة من الحرب العالمية الثانية، وما حصل من تقسيم برلين إلى نصفين، فحصل انقطاع بين الأسر في هذه المدة البعيدة، ثم بعد ذلك هللوا لتحطيم سور برلين وتوحيد ألمانيا، ولكن تعجب بعد ذلك مما فعلوه -كما سمعنا من بعض إخواننا ممن يقيمون في ألمانيا- فقد قيل: إن الذين كانوا في ألمانيا الشرقية التي ابتليت بالشيوعية ذهبوا وهرعوا عند ذلك إلى أقاربهم الذين هم من نفس الأسر في برلين الغربية، فما كانوا يفتحون لهم الأبواب أصلاً! ويرفضون أن يدخلوهم، ويردوهم عن أبوابهم كأنهم متسولون! وهذا شيء لا يستغرب في العلاقات الاجتماعية في الغرب، بل أوضاعهم أشنع من ذلك.
فالشاهد: أن الذي حدا بهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الأنصار، وجعلهم يرحبون بإخوانهم المهاجرين ويؤثرونهم على أنفسهم، ولا يحسدونهم على نعمة أنعمها الله عليهم أو على عطاء قد خصوا به -إنما هو غاية الإيثار مع شدة الحاجة إلى هذه الأموال، وأخبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك كثيرة مما لا تجد له مثلاً في التاريخ كله على الإطلاق، فلم يوجد جيل مثل هذا الجيل الفذ الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه.
قوله: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) لوجود الجنسية -أي: التجانس-، والتوافق في الصفاء وطهارة القلوب، والموافقة في الدين والإخاء؛ لأن أقوى رابطة على الإطلاق هي رابطة الدين، فالله سبحانه وتعالى ربط المسلم بأخيه المسلم كما ربطت الكف بالمعصم، وكما ربطت القدم بالساق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ونحن نعجب أشد العجب أنه في الوقت الذي يُنكَّل فيه الأقذار الأنجاس الأخباث أرذل خلق الله من اليهود -لعنهم الله سبحانه وتعالى- بإخواننا المستضعفين، ونحن هنا نحتفل بالنصر عن طريق الأغاني والرقص وغيرها، فهل هذه هي المشاركة الإيمانية؟! فتجد برامج اللهو واللعب والكرة والعبث وإخواننا ينكَّل بهم على يد هؤلاء الأنجاس أخبث خلق الله من أحفاد القردة والخنازير وعبدة الطاغوت.
فما يحصل الآن مع الإخوة في فلسطين شيء لا يتصوره العقل، فأين حقوق الإنسان؟! وأين الأمم المتحدة؟! وأين هذا السراب كله؟! وأين أثر تلك الصورة التي يقولون: إنها هزت ضمير العالم؟ أعني صورة الأب وابنه اللذي كانا يحتميان وراء البرميل، فقتلوا الطفل الصغير عن سبق إصرار وتعمد، وهذا كان واضحاً في الصورة! مع أنه لم يشارك في المظاهرة، ولا كان يحمل سلاحاً ولا غيره!! وهكذا تقوم الطائرات المروحية بقصف الفلسطينيين بصواريخ مضادة للدبابات!! وكل ذلك يقوم به المجرم السفاح شارون، الذي هو مجرم دولي معروف، وهو الذي كان وراء مجزرة صبرة وشاتيلا، ومثل هؤلاء لا يقال عليهم: إرهابيون! لكن الإرهابية صارت حكراً على المسلمين إذا دافعوا عن دينهم وبلادهم وأوطانهم! فالله المستعان! فينبغي أن نتذكر ونحن نتكلم عن ترحيب الرعيل الأول والتعاطف والمجانسة والمناصرة التي كانت بين المهاجرين والأنصار؛ ما نحن عليه الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، قال الشهاب: المراد بمحبة المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ)) أي: في أنفسهم: ((حَاجَةً)) أي: طلباً أو حسداً، ((مِمَّا أُوتُوا)) أي: مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره؛ لسلامة قلوبهم وطهارتها عن دواعي الفرك، ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) أي: حاجة وفاقة.