[أدلة فرضية التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى وآلائه]
إذاً: ينبغي أن نخصص أوقاتاً للتفكر، وإياكم أن تظنوا أن التفكر أمر مستحب، بل التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى فريضة وليس أمراً مستحباً، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت: (حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبكت رضي الله تعالى عنها -وكان هذا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، فقلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، فقام فأخذ يصلي ويبكي حتى بل لحيته، ثم تمادى في البكاء حتى بل حجره، ثم استمر في البكاء حتى بل الثرى - ابتلت الأرض من دموعه صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما دخل عليه بلال ليؤذنه بالصلاة، رآه يبكي فبكى، وقال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزل عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١]) إلى آخر الآيات من أواخر سورة آل عمران.
قوله: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) هذا هو الشاهد، انظر إلى قوله في صدر هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠] * {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١] إذاً: التفكر ليس شيئاً مستحباً إنما هو واجب، وبه يصل الإنسان إلى تعظيم الله سبحانه وتعالى وزيادة الإيمان واليقين.
وهناك دليل آخر من القرآن على وجوب التفكر في بعض هذه الآيات، وهو قوله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:٢٤] أي: ليتفكر، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف، فهذا أيضاً دليل على وجوب التفكر فيما تأكله من الرزق، فتفكر في نعمة الله عليك في الطعام، فينبغي أن يكون للتفكر وقت مخصص، بأن يخلو الإنسان ويتفكر في آيات الله، وأن يدرس العلوم الحديثة، خاصة أن العلوم الحديثة الآن كشفت عن آيات توحيد الله سبحانه وتعالى بحيث أصبح الإنسان لا يقرأ سطراً إلا ويسبح الله سبحانه وتعالى ويعظمه ويحمده، فآيات الله ظهرت الآن بصورة مبهرة.
والعلوم الحديثة مثل: علم الجينات، وعلم الفضاء، وعلم البحار، وعلم النباتات، هذه إذا قرأتها بنية التفكر في خلق الله كما ينبغي لها أن تكون فستكون فرعاً من علم التوحيد.
فهنا يمتن الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأنه كلما ذكر جملة من الآيات في سورة الرحمن ختمها بقوله عز وجل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣] معناها: أن الله سبحانه وتعالى يمن علينا بنعم معينة ويطالبنا بالتفكر فيها واستحضار نعمة الله فيها، ثم يعاتبنا أننا قصرنا في شكر هذه النعم، فتأملوا كل جملة من الآيات بعدها يأتي: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
إذاً: فتش عن الآلاء والنعم في الآيات قبل قول الله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).
فهذه الجملة من النعم ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:١٠]، فخلق الأرض واستقرارها والرزق الذي فيها، كل هذه الأشياء لماذا نحن نقصر في شكرها وهي نعم عامة، ونحن نتمتع بها؟! تخيل أن الله منع الله عنك الهواء، أو منع عنك الماء، فهل لأنها نعم عامة لكل البشر فنحن لن نستحضرها؟ تذكروا قصة ذلك الملك الذي أصيب باحتباس في البول وتألم لذلك جداً، حتى أتاه بعض العلماء وقال له: هذا الملك الذي أنت فيه الآن، كم تبذل في سبيل إخراج هذا الذي احتبس منك؟ قال: أبذل ملكي كله.
انظروا جعل ملكه في كفة وتفريغ هذا البول في كفة أخرى.
إذاً: كم من النعم ييسرها الله سبحانه وتعالى لنا صباح مساء، ولا نحس بقيمتها إلا حينما نفقدها، حاول مرة أن تغمض عينيك، وأن تمشي في الطريق بدون نعمة البصر، حتى تدرك قيمة نعمة البصر، ربما لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها لحظات، لكن تأمل لو أنك تمشي بدونها، كذا في كل نعمة تأمل لو أنك محروم منها، أو اجلس إلى من امتحنه الله بفقد البصر حتى تعرف مدى نعمة الله عليك، كثير منا مثل المسمار -ونعتذر عن هذا التشبيه- لا يتقدم حتى يُضرب على رأسه، فكثير منا لا يستقيم على طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته إلا إذا ابتلي، أو حرم من النعمة بحيث ينتبه لقيمة هذه النعمة، فالنعم لا تعد ولا تحصى، وكما أشرنا هذه السورة حافلة بذكر النعم التي يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى ضرورة شكرها والتفكر فيها.
قوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} الأنام قيل: هم الناس، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الإنس والجن.