[تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)]
قال عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥].
أي: يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا.
وبعض الناس أخطأ في تفسير هذا العطاء فقال: هي الشفاعة في أمته حتى يرضى.
فعن ابن عباس قال: (عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفتح على أمته من بعده كفراً كفراً -يعني: بلداً بلداً- فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٤ - ٥])، قال ابن كثير: إسناده صحيح، ومثله لا يقال إلا عن توقيف.
ولذلك عمم القاسمي هنا فقال: وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين من فتوح واقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين، وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشو دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وبالجملة هذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة، وثبوت الإنعام في الدارين، حيث أجمله ووكله إلى رضاه، وهذا غاية الإحسان والإكرام.
يعني: سيظل يعطيك ويوالي عليك النعم في الدنيا والآخرة حتى ترضى.
وقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) هذه الآية كنا قد أشرنا إليها مراراً أن بعض العلماء قال: إنها أرجى آية في القرآن الكريم، ووجه ذلك أن الله يشفعه في أمته حتى يرضى.
وروى بعض الناس في ذلك بعض الأحاديث، وهي لا تصح، ومن هذه الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال عند نزول هذه الآية الكريمة {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥]: (إذاً: لا أرضى، وواحد من أمتي في النار) وإذا صح الحديث فإن المقصود بالأمة أمة الإجابة.
وعبر بعض الشعراء عن هذا المعنى فقال: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبَنا ذاك العطاءُ وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساءُ هناك نصوص كثيرة في القرآن وفي السنة فيها أن من مات من أهل الكبائر وأهل المعاصي دون توبة يعذب في النار، وهناك أناس من الموحدين سوف يدخلون النار، ومنهم من يخرج بالشفاعة، ومنهم من يمكث إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، والحديث معروف في آخر من يخرج من النار.
إذاً: هناك من يعذب في النار، ويبقى إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يخلد فيها.
وهذا الحديث: (إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي في النار) إذا صح فيكون معناه: إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي يخلد في النار، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضى ربه عز وجل، وهذا الحديث لم يثبت.
ثم إن التعلق بهذا المعنى يفتح على الناس باب التواكل، ويغتر به بعض الجهال من أنه لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة؛ تغريراً للجهال، وتزييناً لموارد الضلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً: الله سبحانه وتعالى حكم عدل، كما أن إدخال الجنة يكشف عن صفات الرحمة والإحسان والتفضل والإكرام، كذلك أيضاً كونه شديد العقاب فيعذب الكفار بعد إنذارهم، أو يعذب العصاة بعد إقامة الحجة عليهم، فهذا أيضاً يكون مظهراً لعدله وحكمته، وهذه من صفات كماله سبحانه وتعالى.
إذاً: هذا الكلام يتعارض مع النصوص التي وردت من كون العصاة يدخلون النار فضلاً عن الكفار، مما ينبغي الحذر منه، وعدم الاعتراف بأقوال هؤلاء الشعراء وبهذه الروايات الضعيفة؛ لأنه لا يفرح بها كثيراً إلا المرجئة.
ونحن قلنا: إذا صح قوله: (لا أرضى وواحد من أمتي في النار) فالمقصود أمة الإجابة، وإن كان هناك أحاديث أخرى فيها معنى قريب من هذا، لكن ليس بنفس الإطلاق، مثل حديث: (لا أزال أشفع يوم القيامة فأشفع حتى يناديني ربي: أقد رضيت يا محمد؟! فأقول: أي رب رضيت) هذا في حق من أذن له في الشفاعة فيهم.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:٣٦]، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨] فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك).
فهذا يئول بالشفاعة وبغير ذلك.
أما أنه لا يدخل أحد من أمته النار على الإطلاق، وأن هذا هو الذي يرضيه، فنحن نقول: يرضيه ما يرضي ربه تبارك وتعالى.