[معنى التسبيح في قوله: (وتسبحوه)]
قوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) السبح: هو المرور السريع في الماء، يقال: سبح سبحاً وسباحة، وأطلق على مر النجوم في الفلك، نحو قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠]، وأطلق أيضاً على جري الفرس، فجري الفرس يطلق عليه سباحة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات:٣]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:٧].
والتسبيح: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله: المر السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير، كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل: أبعده الله، وجعل التسبيح عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نية، قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:١٤٣]، والمقصود بالتسبيح هنا: الصلاة، يعني: أنه كان من المصلين، ويستعمل التسبيح بمعنى التنفل، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعلكم ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها الذي تعرفون، ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة)، وهذا حديث صحيح.
(فصلوا معهم) يعني: صلوا الفرائض أولاً لوقتها، ثم إذا خرج هؤلاء الأمراء الذين يؤخرون الصلاة فصلوها معهم سبحة يعني: انووا بها النافلة، فصلاة النافلة يطلق عليها تسبيح، وكما في حديث رواه مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه في الحج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً)، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) والحديث رواه مسلم عن حفص بن عاصم قال: (صحبت ابن عمر رضي الله عنهما في طريق مكة فصلى بنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى - أي: نحو جهة المكان الذي صلى فيه- فرأى ناساً قياماً صلوا معه، فقال: ما يصنع هؤلاء؟! قلت: يسبحون، قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) أي: لو أني كنت أزيد فسأزيد في الفريضة، فهو أفضل، ثم قال: (يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١]).
إذاً: الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المسافر يصلي الفريضة فقط، وله أنه يصلي ركعتي الفجر والوتر، ويمكن أن يصلي صلاة الضحى إلى ثمان ركعات.
ومن الأجوبة الحسنة للعلامة ابن عثيمين حفظه الله تعالى أنه أتاه في من -وكنت في هذا المجلس- رجل كأنه بدوي ثائراً هائجاً مائجاً يصيح ويهاجم الإخوة، فأخذ الشيخ يتلطف معه وقال له: ما لك؟ أو ما الذي أغضبك؟ فقال: تنفلت في السفر وإذا بهم ينهونني عن الصلاة وعن التنفل؟! فقال له: من قال لك: لا تتنفل؟ لك أن تصلي الوتر من ركعة إلى إحدى عشرة ركعة، فالوتر أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة، كلها تكون وتراً، وقال له: لك أن تصلي الضحى من ركعتين إلى ثمان، وتصلي ركعتي الفجر.
والحقيقة أن الشيخ ما خالف المذهب الراجح، وهو أنه لا يتنفل في السفر إلا ما ذكرنا؛ لكنه أقنعه بالعدد الكبير الذي هو أقصى ما يمكن أن يتنفل به، وهذا الجواب من محاسن الأجوبة.
وروى مسلم أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة -يسبح يعني: يتنفل- قبل أي وجه توجه، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)، فيمكن للإنسان في السفر أن يتنفل وهو راكب الراحلة، سواء كانت جملاً أو سيارة أو طائرة أو قطاراً، فيمكن أن يتنفل، إذ الأمر في النافلة أسهل من الفريضة.
إذاً: قلنا: السبح في اللغة: المر السريع في الماء، مثل السباحة، ويطلق على مر النجوم في السماء، كما قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠]، ويطلق على جري الفرس: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات:٣]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:٧]، ويطلق على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، ويكون في هذه الحالة كأنه المر السريع أيضاً في عبادة الله تعالى، المر السريع يفهم منه: المسارعة إلى الطاعات والمنافسة فيها، والاجتهاد فيها، وليس المقصود بالمر السريع أن يدرك الصلاة بسرعة ويصلي صلاة ليس فيها خشوع، لا، المقصود: الإسراع إلى عبادة الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:١٣٣].
وقلنا: إنه يطلق على العبادات قولاً أو فعلاً أو نية: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:١٤٣] يعني: المصلين، وأشرنا على أنها تطلق على النوافل كذلك.
ويقول تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:٤٤]، ولا شك أن هذا -والله تعالى أعلم- تسبيح على الحقيقة، من غير أن نفقهه، خلافاً لمن زعم أن التسبيح يراد به أن من رآه قال: سبحان الله، لا، بل هو تسبيح على الحقيقة؛ لكننا لا نفهم هذا التسبيح، ودليله قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤]، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:١٨]، فلو كان معنى (التسبيح) أنه من رآها قال: سبحان من خلقك مثلاً؛ لما كان بالعشي والإشراق، لكن المعنى أن الجبال كانت تحافظ مع داود على أذكار الصباح والمساء ((بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)) وكانت تنطق وترفع صوتها بذكر الله سبحانه وتعالى، فهذه آية من آيات الله عز وجل لداود عليه السلام.
وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:٤٤]، و (سبحان) مصدر، مثل غفران، قال الله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:١٧]، وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:٣٢].
قال القرطبي: في قوله تعالى: (وتسبحوه) وجهان: أحدهما: تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح، فمعنى قوله: (سبحان الله) يعني: أنزه الله عن كل قبيح، وأنفي عنه كل نقص، وكثيراً ما يقترن التسبيح بالتحميد؛ لأنه إذا كان التسبيح تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل نقص، فإن الحمد هو إثبات كل كمال له، فهو المستحق للمدح والثناء جل جلاله؛ فلذلك كثيراً ما يقترن التسبيح بالحمد كقولك: سبحان الله وبحمده.
الوجه الثاني في قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ) هو فعل الصلاة التي فيها تسبيح، (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، قال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأجلس في أفيائه للأصائل جمع أصيل.
وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:٤١ - ٤٢] أي: أشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير.
قال مجاهد: وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب، كل هؤلاء يجوز لهم أن يسبحوا الله سبحانه وتعالى، ويذكروه بهذه الأذكار: لا إله إلا الله، الحمد لله، والله أكبر، سبحان الله وهكذا.
وقيل: (وسبحوه) يعني: ادعوه، قال جرير: فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفاً دعا ربه فاختاره حين سبحا يعني: حين دعاه.
وقيل المراد: صلوا لله بكرة وأصيلاً، والصلاة: تسمى تسبيحاً، (وَالآصَالِ) العشايا كما ذكرنا، قال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:٢٠٥]، والآصال: هي العشيات.
قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، والمراد: ظاهرهما، يعني: الأمر بالتسبيح في هذين الوقتين بالذات لما لهما من الفضيلة؛ لأنهما أشرف أوقات الذكر في النهار كله، وقت الغدو والعشي.
قول آخر: المراد بقوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) جميع النهار؛ لأنه يكنى عن جميع الشيء بطرفيه، كما تقول: جزت المدينة شرقاً وغرباً، لا تقصد أنك فقط أتيت إلى الطرف الشرقي والطرف الغربي؛ لكن أردت أن تقول كلها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر.
وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:٤١]، فالأمر بذكر الله سبحانه وتعالى بين كيفيته في آيات أخر، كما في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:١٠٣]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمر