تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:٩٣].
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:٩٣] أي: اختلق إفكاً فجعل له شركاء أو ولداً، أو افترى أحكاماً في الحل والحرمة، كـ عمرو بن لحي وأشباهه ممن ينطبق عليهم قول الله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام:٩٣] وممن ادعى النبوة كذباً، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة، وهذا تهديد على سبيل الإجمال، كعادة القرآن، فإنه يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك.
وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) يعني: لا أحد أظلم من هؤلاء، (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) يعني من ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي، بما يفتريه من القول، كـ النضر بن الحارث، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:٣١].
فقوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:٩٣] يعني من ينكر إعجاز القرآن الكري، حتى قال: (سأنزل مثلما أنزل الله) مع أنه قد عرف إعجازه، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله، وكأنه -أيضاً- ادعى الإلهية لنفسه؛ لأن القرآن لا يقدر على أن يأتي به على هذه الصورة المعجزة إلا الله سبحانه وتعالى، فمن قال: سأنزل مثلما أنزل الله فكأنه يدعي أنه قادر على ما لا يقدر عليه إلا الله من هذه المعجزة الظاهرة، وكأنه يسوي قدرته بقدرة الله، ويلزم من ذلك أنه يدعي الإلهية لنفسه، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة، فيعلم ما للظالمين فيها المبَيَّن في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:٩٣] يعني أصحاب هذه الأقوال وهذه الأفعال المذكورة في أول الآية بقوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) فإنه لا أحد أظلم من هؤلاء، وهؤلاء هم الظالمون؛ لأن الإنسان الذي عنده إيمان بالآخرة وخوف من العاقبة والآخرة وما أعد الله للظالمين فيها لا يجترئ على أن يأتي بشيء من هذه الأشياء المشار إليها في الآية، فمن ثمَّ استطردت الآية في ذكر أحوال الظالمين في الآخرة، باعتبار أن هؤلاء أظلم الظالمين.
يقول تعالى: (ولو ترى) أي: انظر إلى أحوالهم: (وَلَو تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) قوله تعالى: (في غمرات الموت) أي: في شدائده وسكراته وكرباته (والملائكة باسطوا أيدهم) أي: بالضرب والعذاب.
وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:٥٠].
وقوله: ((أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)) أي: قائلين لهم: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم.
تغليظاً وتوبيخاً وتعنيفاً لهم، والظاهر أنه لا يمكن أن يكون في ذلك مجاز، وإنما هو حقيقة، وأن هذا يحصل حقيقة مع الكفار عند احتضارهم على الصورة المحكية، ومتى ما أمكن حمله على الحقيقة فلا نعدل عنه إلى المجاز.
قال الحافظ ابن كثير: إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، وروحه تهرب خوفاً من الملائكة، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم وهم يخرجون: (أخرجوا أنفسكم) ومما يؤيد الحقيقة ويبعد المجاز قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:٥٠] فإن الحقيقة صريحة في قوله: (ولو ترى) وقوله: (يضربون)، ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل.
قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية بيان حال الكافر عند القبر وعذاب القبر، واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعواناً من الملائكة.
لأنه هنا ذكر مجموعة من الملائكة وليس ملكاً واحداً.
يقول تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} قوله: (اليوم) يعني وقت الإهانة، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له، أي: من الآن فصاعداً، فمن وقت الإهانة لكم عذاب دائم لا ينقطع.
وقوله: (تجزون عذاب الهون) أي: الهوان الشديد (بما) أي: بسبب (بما كنتم تقولون على الله غير الحق) كالتحريف، وكدعوى النبوة الكاذبة، وهو جرأة على الله متضمنة للاستهانة به سبحانه وتعالى (وكنتم عن آياته تستكبرون) حتى قال بعضكم: (سأنزل مثل ما أنزل الله).