قوله تعالى:((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا))، الإيمان هو العلمي اليقيني ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) الصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، والإيمان مقدم الشجاعة، فالإنسان يكون عنده يقين ثم تكون عنده الشجاعة، كما في الجهاد، فالمجاهد يضحي بنفسه وبروحه وعنده يقين بأن له عند الله الجنة، وهذا غيب، ولو لم يكن عنده يقين بالغيب لما أقدم، ولما حصلت له هذه الشجاعة، وهذه هي المشكلة التي تؤرق أعداء الإسلام في كل زمان، فالكفار الذين حاربوا المسلمين منذ العصر الأول إلى يومنا هذا مشكلتهم أن المسلمين يحبون الموت أشد من حب الكفار للحياة! وهذا هو الذي يقض مضاجع اليهود، وشواهد هذا من التاريخ كثيرة جداً، وما أكثر فزع الكفار من شدة حب المسلمين للموت! ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد في عهد ريجن حصلت في لبنان عملية دك المبنى الأمريكي، ومات عدد كبير جداً من العسكريين الأمريكان في هذه الحادثة في بيروت، وعلى أثرها فرت أمريكا من لبنان كالجرذان الهاربة، وعاتبوا ريجن وقالوا له: كيف أن أمريكا أقوى دولة في العالم وعندها تكنولوجيا وكذا وكذا، ومع هذا يحصل هذا التفجير؟! فرد عليهم رداً منطقياً فقال: إن أقوى إجراءات الأمن في العالم لا تقف في وجه رجل يريد أن يموت! فالشاهد أن هذا هو الذي أقض أعداء الإسلام في كل وقت، وهذا من خصائص هذه الأمة، وما هو السر؟! الكفار لا يفقهون؛ لأنهم لو فقهوا لعلموا السر، السر هو أنه لا يقدم على هذا إلا وهو موقن بأنه سوف ينتقل إلى ما هو أفضل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:(للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه)، والذنوب دائماً تصيب الإنسان بالجبن والهلع والخوف، فيخشى من الموت فيلقى الله بذنوبه، لكن الله سبحانه وتعالى يزيل من أمامه هذه العقبة، فيقول له: ضمنت لك إذا استشهدت في سبيلي أن أمحو عنك ذنوبك في أول دفعة من دمك، فتمسح منه كل الخطايا التي ارتكبها تماماً، فمن منا لا يحرص أن تمحى خطاياه بهذه السرعة؟! قال عليه الصلاة والسلام:(يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج سبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، فهذا هو سر هذه القوة عند المسلمين، مع أنهم قد يدخلون في كثير من المعارك وهم في حالة شديدة من الضعف مادياً، لكن هذه النقطة بالذات هي التي أقضت الروم وأقضت الفرس وأقضت كل من يتصدى للمسلمين.
في حرب فلسطين سنة ١٩٤٨م كان اليهود أخوف ما يخافون من المجاهدين من الإخوان المسلمين، فكانوا يخافون منهم جداً، ويهربون من أي مكان يجدونهم فيه، قال أحد الضباط اليهود في ذلك الوقت: نحن أتينا إلى فلسطين لنعيش، وهم جاءوا إلى هنا من أجل أن يموتوا! فهم معترفون أنهم من أشتات الأرض، منهم اللصوص المجرمون، فالحل أن يرجع كل واحد إلى وطنه، يرجع الفلسطينيون إلى بلادهم، ويرجع اليهود من حيث جاءوا من أشتات الأرض التي كانوا فيها.
وإلى الآن يفزع اليهود من المجاهدين الفلسطينيين مع أنه لا وجه للمقارنة بين قوة هؤلاء المساكين أطفال الحجارة، وبين جيش عرمرم، ومع ذلك يضجون ويخافون ويفزعون! ولا أريد الآن الدخول في تفاصيل موضوع ما يسمى بالعمليات الانتحارية، فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل من ناحية فقهية، لكن هي تدل على أن الشجاعة تأتي بعد اليقين، فلابد أولاً من اليقين، فالمجاهد يعلم أنه إذا قتل في سبيل الله فهو حي عند الله كما قال سبحانه:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:١٦٩]، فهو يصدق خبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، ووعد الله لا يمكن أن يخلف، فإن الله لا يخلف الميعاد، قال الله حاكياً عن المؤمنين قولهم:{هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:٢٢]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:(الشهيد لا يجد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) فألم السيف أو الرصاص أو العذاب لا يشعر به.
وقال النبي عليه السلام:(كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)، فلذلك الشهيد يجار من عذاب القبر، ولا يفتن في قبره، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه، فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا، وهو سيموت ولا بد بأي سبب؟ تعددت الأسباب والموت واحد ولن يموت إلا بأجله، قال خالد رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت: ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! ومن الحكم: احرص على الموت توهب لك الحياة.
إذاً: فضيلة الشجاعة لا تأتي إلا مترتبة على فضيلة اليقين، فلابد من اليقين أولاً، ثم اليقين هو الذي يجعل الإنسان شجاعاً، أما إذا لم يوجد عند الإنسان يقين، فهو يريد الدنيا ولا يريد الآخرة، وهذا يجعله يرفع شعار: الجبن سيد الأخلاق كما يقولون.