[تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم)]
قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:٥].
لماذا تعرض عز وجل هنا لنفي العلم عن آبائهم؟ لأن آباءهم هم قدوتهم، كما قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢]، يعني: أن ما نسبوه له جل وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به؛ لأنه مستحيل، والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه.
ومن الآيات الدالة على ذلك، قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:٥٧]؛ لأن ظلمهم لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلاً، ولا يدل على إمكانه، ومن هذا القبيل: قول المنطقيين: (السالبة لا تقتضي وجود الموضوع)، وهذا كلام منطقي لا يخصنا الآن.
ما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً بينه في مواضع أخر، كقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:١٠٠]، وقوله في آبائهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:١٧٠]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله هنا عز وجل: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:٥]، يعني: أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولداً.
أمر كبير عظيم كما دلت الآيات على عظمه، كقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:٤٠]، وقوله: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:٩٠ - ٩١].
وكما قلنا: كلمة (تخرج من أفواههم) تفيد استعظام افترائهم على إخراجها من أفواههم؛ لأن المعنى: كبر خروجها، أي عظمت بشاعته وقباحته بمجرد التفوه به، فما بالك باعتقادهم له، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يكون حممة أحب إليه من أن ينطق به)، يعني: أن يحترق حتى يكون فحمة سوداء أهون عليه من أن ينطق به بلسانه لكنه يجد في نفسه هذه الوساوس، فقال: (أوقد وجدتموه؟ ذلك صريح الإيمان، أو قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة).
فالإنسان قد لا يقوى على النطق بهذه الوساوس، وقد ترد له بعض هذه الخواطر لكن من شدة استعظامها لا يمكنه النطق بها، فاجتراء المشركين على النطق بهذه الأشياء يدل على شناعة الفعل الذي أتوا به، فلذلك أتى بكلمة: (تخرج من أفواههم)، أي: كيف طاوعتهم أنفسهم أن يتفوهوا بهذه الكلمة فضلاً أن يعتقدوها؟ وقال بعض علماء العربية: إن قوله: (كبرت كلمة): معناه التعجب، فهو بمعنى: ما أكبرها كلمة! أو: أكبر بها كلمة! فهو أسلوب تعجب؛ لأن فَعُل بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح، فتكون من باب نعم وبئس، ومنه قوله تعالى: (كبرت كلمة) كما هنا.
وإليه إشار ابن مالك في الخلاصة بقوله: واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مرسلا إذا تقرر ذلك ففاعل كبر، ضمير محذوف، و (كلمة): نكرة مميزة للضمير المحذوف على حد قوله في الخلاصة: ويرفعان مضمراً يفسره مميز كنعم قوم معشره والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها، فالمخصوص بالذم تلك المقالة التي فاهوا بها، وهي قولهم: (اتخذ الله ولداً).
وأعرب بعضهم (كلمة): بأنها حال، أي: كبرت نيتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم، وهذا مذهب ضعيف! والصحيح أنها تمييز.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (تخرج من أفواههم): أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولذا قال: (إن يقولون إلا كذباً).
وهذا المعنى له شواهد من القرآن كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:١٦٧] ونحو ذلك من الآيات.
(إن يقولون إلا كذباً) الكذب هو مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال.
(قالوا اتخذ الله ولدا): فعل وفاعل ومفعول، وكل هذه العبارة تذكرنا بقول ابن مالك: (وكلمة بها كلام قد يؤم)، يعني: قد تطلق الكلمة ويقصد بها مجموعة من الكلمات، كما تقول: قرأت كلمة لبيد، يعني: قصيدة لبيد، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠]، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:١٠٠] أي: كل هذه أطلق عليها كلمة، فإذاً: قد يطلق على مجموعة من الكلمات لفظ كلمة، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:١١٩]، كل هذا أطلق عليه أيضاً كلمة.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ولم يجعل له عوجا) -بكسر العين- في المعاني، أي يكون نفي العوج في المعاني، أما العوج في الشيء الحسي فهو ما كان منتصباً، تقول: هذا الحائط ليس فيه عوج بفتح العين.
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل (عوجا)، بالسكت على الألف المنزلة من التنوين، وهي سكتة يسيرة من غير تنفس إشعاراً بأن (قيماً) ليس متصلاً (بعوجا) في المعنى، بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر، أي: جعله قيماً، على أن الجار الأول منفي أما (قيماً) فهو مثبت فجاءت السكتة من أجل أن تفصل بين المنفي والمثبت، ونحن نريد في المعنى أن نثبت الاستقامة والقيمية، فلذلك جاءت هذه السكتة لتشير إلى أن (قيماً) منصوب بفعل مقدر، يعني: جعله قيماً.
(ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات): قرأ الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة، وكسر الشين المشددة، وقرأ حمزة والكسائي (يَبْشر) بفتح الياء وسكون الباء الموحدة.