للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فنادوا صاحبهم فهل من مدكر)]

قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:٢٩ - ٣٢].

ثم أشار تبارك وتعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}.

((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) وهو كما يقول المفسرون: قيدار بن سالف، ((فَتَعَاطَى) يعني: تعاطى عقر الناقة.

وقيل: (تعاطى) أي: تناول الناقة بيده، ((فَعَقَرَ)) أي: فعقرها فقتلها، ((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)).

{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} صاحها جبريل عليه السلام عليهم، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي: كالشجر اليابس المتكسر، كما سنبين إن شاء الله تعالى.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}: قال أبو حيان في البحر المحيط: (تعاطى) هو مطاوع (عاطى)، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً، فتعاطها قيدار وتناول العقر بيده، والعرب تقول: تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله.

ولذلك رأينا بعض المفسرين يفسر ((فَتَعَاطَى)) بأنه تعاطى العقر، فتكون بمعنى العقر.

و (تعاطى) كما قال القاسمي معناه هنا: تناول الناقة بيده، فالفعل هنا: إما فعل الشيء أو تناوله، فتعاطى كذا إذا فعله أو تناوله، وعاطاه إذا تناوله، ومنه قول حسان رضي الله عنه: كلتاهما حلب العصير فعاطَني بزجاجة أرخاهما بالمفصل وقوله: ((فَعَقَرَ) أي: تعاطى عقر الناقة فعقرها، فمفعولا الفعلين (تعاطى، عقر) محذوفان.

وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ) وعبر عنه في سورة الشمس بأنه أشقاهم في قوله: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}، وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية، وإيضاح ذلك: أن الله تبارك وتعالى في هذه الآية نسب العقر لواحد لا لجماعة: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم، كقوله في سورة الأعراف: ((فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)) [الأعراف:٧٧]، وقال في سورة هود: ((فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ)) [هود:٦٥]، وقال في الشعراء: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء:١٥٧]، وقال في سورة الشمس: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:١٤].

يقول: ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو: أن قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة، فنادوا واحداً منهم لينفذ ما اتفقوا عليه أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون، وصحت نسبة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر، وصحت نسبته أيضاً إلى الجميع لأنهم متمالئون، كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بـ (الفاء) في قوله تبارك وتعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، على ندائهم.

يعني: رُتب التعاطي على النداء، ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) بعدما تمالئوا واتفقوا على العقر، فلما نادوه لكي ينفذ هذه المهمة ((تَعَاطَى فَعَقَرَ)).

وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر: وهو أن إطلاق المجموع مراداً به بعضه أسلوب عربي مشهور، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، من ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:١٩١] على قراءة حمزة، بصيغة المجرد في الفعلين؛ لأن من قُتل ومات لم يبق فيه نفَس ولا حياة، فالمراد: إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر الذي ما زال حياً.

ونظيره قول عبد الله بن مطيع: فإن تقتلونا عند حرة واقم فإنا على الإسلام أول مَن قتل أي: فإن تقتلوا بعضنا.

ومنه أيضاً قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:١٤]، وهذا في بعض الأعراب دون بعض، والدليل قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:٩٩] إلى قوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:٩٩].

ومِن أشهر الشواهد العربية على أنه قد يطلق المجموع ويراد به البعض قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدَي ورقاء عن رأس خالد وقوله تعالى: ((فَعَقَرَ)) أي: قتلها.

والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح، ومنه قول امرئ القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقِرَى الضيف قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا يقول الله تبارك وتعالى: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) يعني: حضوه على عقرها، ((فَتَعَاطَى)) على العقر ((فَعَقَرَ)).

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر:٣٠ - ٣١] صاحها جبريل -عليه السلام- عليهم، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}، أي: كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.

وقرئ بفتح الظاء: ((كَهَشِيمِ الْمُحْتَظَرِ)) على أنه اسم مكان، أي: كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها.

وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم فلم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد الزرع والنبات بعد خضرة ورقه وحسن نباته، قال ابن زيد: كان العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبيس الشوك.

وعن سفيان: الهشيم: إذا ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط، والعرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً.

((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)).