[الخلاف في معنى قوله: (خلق الإنسان * علمه البيان)]
هناك خلاف في معنى قوله: ((خلق الإنسان)) و ((علمه البيان)).
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:٣ - ٤]: اعلم أولاً أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة، كما أشار إليه تعالى بقوله في أول سورة النحل: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:٤].
هذا أيضاً ينص بأن خلق الإنسان وتكريمه بإعطائه الإبانة والتوضيح والإفصاح عما في قلبه، بحيث يقوى على الخطاب والمجادلة والمحاججة والنقاش.
ثم قال أيضاً: وقوله: في آخر يس: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:٧٧].
فالإنسان بالأمس نطفة، واليوم هو في غاية البيان وشدة الخطاب، يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام، مع أن الله خلقه من نطفة وجعله خصيماً مبيناً، آية من آياته جل وعلا دالة على أنه المعبود وحده، وأن البعث من القبور حق.
انظر إلى هذه النطفة المهينة كيف خلق منها هذا الإنسان وهذا الكيان، حتى إنه قدر على الإبانة وعلى الفصاحة وعلى البلاغة، بل إنه يخاصم حتى في ربه، فانظر بعد ما بين المرتبتين، كما جاء في الحديث القدسي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في كفه، ثم أشار بأصبعه فقال: يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنا تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين برديك، وصار للأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم -يعني: حتى إذا أتى أوان قبض روحك- قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {خَلَقَ الإِنسَانَ} لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان، ولكنه بينها في آيات أخر، كقوله في سورة الفلاح: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:١٢ - ١٤].
وبلا شك فإن في سورة الرحمن آيات لها ارتباط وثيق جداً بالحقائق العلمية الحديثة، ولولا الخوف من الإطالة والتأخر في التفسير لأفضنا في هذا كثيراً.
هذه الآية وحدها: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) شرحتها آيات أخرى في القرآن الكريم، ثم أتت العلوم الحديثة وكشفت مؤخراً عن مراحل تكوين الجنين، وبان بذلك أن الوصف الذي في القرآن هو وصف في غاية الدقة لكل المراتب التي يمر بها نمو الجنين في بطن أمه، وكثير من الحقائق العلمية كما أشرنا من قبل.
ويكفي أن أشهر مرجع على الإطلاق في علم الأجنة -لدكتور كندي- تضمن صوراً لأجزاء من المصحف من سورة المؤمنون ومن سورة الحج حتى يوثق كلامه، وقال: إن هذا يدل على أن هذا القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً أن يكتشف هذه الأشياء من عند نفسه، بل هو تنزيل من لدن حكيم خبير.
والأمر يطول لكن بعد أن نفرغ من درس التفسير يمكن أن نفرد للآيات التي لها ارتباط بموضع الإعجاز العلمي دروساً مستقلة إن شاء الله تعالى إن تيسر ذلك.
وقد بين القرآن الكريم المراحل التي مر بها خلق الإنسان حتى قبل أن يكون نطفة، وهي أنه كان من تراب ومن ماء ومن طين ومن صلصال كما هو معروف.
ثم قال: وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، التحقيق فيه: أن المراد بالبيان: الإفصاح عما في الضمير.
وهذا وضحه قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:٤] فقوله تعالى: ((مُبِينٌ)) على أنه اسم فاعل أبان المتعدية، والمفعول محذوف للتعميم، أي: مبين كل ما يريد بيانه وإظهاره بلسانه مما في ضميره؛ وذلك لأن ربه علمه البيان.
ثم قال: وقد امتن الله جل وعلا على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:٨ - ٩].
وهذا في سياق المنة، وبلا شك فإن اللسان والشفتين هما آلات البيان.