[إضافة في تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)]
قوله تعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) سببه أن الرسول عليه الصلاة والسلام همَّ أن يطردهم وأن يبعدهم، لعله يكون في ذلك سبب في هداية أولئك القوم، ولم يؤاخذه الله سبحانه وتعالى على هذا الهم، وإنما نزلت الآيات ناهية له عن ذلك.
ودلت الآية -أيضاً- على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن، وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؛ نصف يوم)، يعني: نصف يوم من أيام الله في الآخرة.
وروي أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف؛ لكثرة ماله.
وروي أن علياً لم يخلف شيئاً بعد وفاته.
يقول: القاسمي: الحديث الأول رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام).
وأما حديث: (آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف)، فلم أجده بهذا اللفظ.
وقيل: قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكِّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره، فبعض العلماء استنبط من هذه الآية الكريمة أنه لا ينبغي أن يُمنع أي إنسان يقوم بتذكير الناس في أي مكان يذكرهم فيه بالله سبحانه وتعالى، وبأمور الآخرة، سواء أكان في مسجد أم في طريق أم في غير ذلك.
وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار، ويبتهل بالدعاء، ويردد ذلك إلى الصباح، ويتأذى به الجيران؛ هل يمنع أم لا يمنع؟ واستدل من قال: لا يمنع بهذه الآية: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٥٢].
واستدل أيضاً بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:١١٤]، إلى آخرها، لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الشيء الذي فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة معينة وفيه ابتداع فإنه -بلا شك- يمنع؛ لأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا الابتهال وغير ذلك خيراً لسبقنا رسول الله وصحابته إليه، فلما لم يفعلوه دل على أنه ليس من الدين؛ لأنهم كانوا أولى بكل فضيلة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، لكن الاجتهاد في الدعوة يصلح له الاستدلال بالآيتين على نفس هذا المعنى، وأن من وقف يذكر الناس -سواء أكان في طريق أم في شارع أم في مسجد أم في أي مكان- ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى يريد وجه الله ويعظ الناس ويذكرهم بأمور الآخرة فلا حرج في ذلك، كما قال مالك بن دينار: (لو كان لي أعوان لأطلقتهم في شوارع البصرة- أو في جوانب الأرض يقولون ويصرخون في الناس: النار النار) أي: يحذرونهم من النار.
فلا ينبغي أن يمنع من يذكر الناس بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يقول كلاماً مصادماً للشريعة، أو يحتوي على بدع أو أحاديث ضعيفة أو غير ذلك، فما دام أنه يدعو إلى الحق فلا ينبغي أن يمنع، واستدلوا بهذه الآية، وهذا هو الواضح من الآية الكريمة، فعجباً لهذا الزمن الذي أدركناه! حتى إننا نجد أن بعض المساجد تعامل على أنها إقطاعات، وكأن بعض الجماعات قد ورثتها كابراً عن كابر، وكأنها مقاطعات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وكل جماعة تفرض نظاماً معيناً على المسجد، بحيث إذا لم يكن المذكِّر من الجماعة ومن أعضائها ومن المنتمين إليها فإنه يمنع، حتى لو كان يتكلم بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك حرم المسلمون من خير كثير، فنجد في بعض المساجد أنه ممنوع أن يلقي أحد كلاماً إلا بإذن الإمام، وصحيح أننا نحترم الإمام، لكنه إذا استأذن الإمام ففي الغالب أنه يمنع، وإنما هذا مجرد إجراء روتيني لأجل عرقلة الدعوة وإيقافها، فواجب احترام الإمام، وواجب استئذانه، لكن استئذان الإمام صار يقصد به هدف معين، وهو إيقاف الدعوة وعدم تمكين من يعظ الناس، ولو كان الأمر على غير ذلك لأذن، لكنه لا يأذن إلا لأشخاص معينين، فالعبرة يما يقوله الشخص، ولذا لا ينبغي أن يمنع من يريد أن يقف في الناس ليذكرهم بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يدعو إلى بدع ولا إلى ضلالة، فما دام أنه يذكر بالله وبالآخرة فلا ينبغي لأحد منعه.