[ما ورد في سبب نزول الآيات]
روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن هذه الآية نزلت في ابن لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال لأبويه وهما: أبو بكر وأم رومان وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام، فكان يرد عليهما ويكذبهما فيقول: فأين فلان؟ وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، فأسلم بعد ذلك عبد الرحمن وحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:١٩].
وهذا غير صحيح، فلا يصح أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما؛ لأن قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)) يثبت لهذا الشخص أو هذه المجموعة من الكفار العاقين دخول النار، فمن أثبت الله له سوء العاقبة، وأنه من أهل النار، فهل يحتمل أن يكون من غير أهل النار؟ وهذا مثل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:١ - ٥]، وهذه الآية يذكر أنها علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يسلم أبداً لا هو ولا امرأته، وبالفعل ماتا على الكفر والعياذ بالله، فصارت هذه من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك قوله هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فإذا كان الله قد كتب الشقاء على إنسان فلا يمكن أن يبدل هذا الحكم، في حين أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قد أسلم وحسن إسلامه.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (لكن نفي عائشة وهي أخت عبد الرحمن أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسناداً وأولى بالقبول)؛ فأم المؤمنين عائشة لا شك أنها أعلم بأخيها وبأهل بيتها وبأبويها رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فنفي عائشة أصح من حيث الإسناد وأولى قبولاً، وذلك ما رواه البخاري والإسماعيلي والنسائي وأبو يعلى: أن مروان كان عاملاً على المدينة، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يستخلف يزيد، فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم فذكر يزيد ودعا إلى بيعته، وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلفه -ليدافع عن هذا الأمر، وأن هذه ليست بدعة- فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: ما هي إلا هرقلية، يعني: أنتم تحاولون جعلها نظاماً ملكياً بالتوارث، بعدما يموت معاوية رضي الله تعالى عنه يرثه ابنه الملك ويكون يزيد ملكاً بعده، فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: هرقلية، إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده، فقال مروان: خذوه -اقبضوا عليه- فدخل عبد الرحمن بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا -يقصد عبد الرحمن بن أبي بكر -الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:١٧]، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن -أي: نحن آل أبي بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين- إلا أن الله أنزل عذري، ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله لعن أبا مروان ومروان في صلبه.
إذاً: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها نفت تماماً وقطعت بأنه لم ينزل في آل بيت أبي بكر شيء من القرآن إلا ما أنزل الله سبحانه وتعالى في براءتها رضي الله تعالى عنها، وهذا من حيث الإسناد أصح، ومن حيث المعنى أولى بالقبول.
قال الزجاج: وقول من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن باطل؛ لقوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فأعلم الله أن هؤلاء لا يؤمنون، فما دام حق عليهم القول لا يؤمنون، وعبد الرحمن رضي الله تعالى عنه مؤمن.
يقول القاسمي: ومما يؤيده: أن الذين حق عليهم القول هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين، وقد حاول بعضهم عدم التنافي والجمع بين القولين: بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه ثم يسلم بعد ذلك، ومعلوم أن الإسلام يجب ما قبله، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمقبلين عليه الذين لم يقلعوا لكثرة ما ورد في العفو عن السائلين، وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى، وكلها على من كان مشركاً آنئذ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم، أو أن فيها ما يحط من أقدارهم ويجعلها مغمزاً عليهم، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا هذا، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة وقالة يلوكها الرعاع، وهم الذين يهمه أمرهم، ويرحم الله عبد الرحمن فقد كفى الأمة وصدع بالحق في حين أن لا ظهير له ولا نصير، والله تعالى أعلم.
إذاً: القول الراجح والأقوى من حيث السند ومن حيث المعنى ألا يكون ذلك في عبد الرحمن، واستظهرنا على ذلك بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأحقاف:١٨] إلى آخره.
وهناك قول آخر لبعض العلماء الذين أرادوا أن يجمعوا بين الاثنين فقالوا: ربما هي فعلاً نزلت في حق عبد الرحمن بن أبي بكر لكن ذلك كان قبل إسلامه، ثم بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، والإسلام يجب ما قبله، وبما أن الإسلام يجب ما قبله فلا يجوز على الإطلاق تعييره بشيء ارتكبه حال كفره.
واستدل أصحاب هذا القول بأنه في بداية الوحي ونزول القرآن الكريم في السور المكية كانت هناك آيات فيها وعيد شديد للكفار وللمشركين، فكانت تشمل كل مشرك قائم في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك لما أسلم عدد كبير من الصحابة زال عنهم وصف الشرك؛ فخرجوا من استحقاق الوعيد الموجود في هذه الآيات التي نزلت في أول الوحي حينما أسلموا وحسن إسلامهم، وبالتالي لا يجوز أبداً أن يعير مسلم بما ارتكبه في حال الشرك.
فكأنه يقول: حتى لو كانت الآية فعلاً نزلت في حق عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما فهذا مما لا ينبغي أن يعير به عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه أسلم بعد ذلك، والإسلام يجب ما كان قبله، فلم يكن لـ مروان أن يطعن فيه بمثل هذا؛ بل إنه لجأ إلى أن يعزف على نغمة يطرب لها الجهلة، وقالة يلوكها الرعاع، ويرحم الله عبد الرحمن فقد أحسن في تصديه لـ مروان، ورد أبلغ الرد بحيث إنه كان ضعيفاً لا أهل ولا والد له ولا نصير ولا ظهير إلا الله سبحانه وتعالى.