[تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)]
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣].
وهنا يبين موجب إمهالهم، فإنهم استفتحوا وطلبوا العذاب، وقالوا: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ))، والواقع أن القرآن هو الحق من عند الله، فما الذي أوجب أن يمهلهم الله ولا يمطر عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بالعذاب الأليم؟!
الجواب
هو كرامة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن ينزل العذاب وهو في وسطهم.
ففي قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، بيان للموجب لإمهالهم، وعدم إجابة دعائهم.
واللام في قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)) لتأكيد النفي، وفي هذا دلالة على أن تعذيبهم والنبي بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، فحكمة الله تقتضي حصول الفصال قبل نزول العذاب، كما حصل للأنبياء عموماً؛ حيث كان يأمرهم الله سبحانه وتعالى بأن يزايلوا قومهم، وأن يفارقوا قومهم، فسنة الله سبحانه وتعالى وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها؛ لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه.
وتشعر هذه الآية بأن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا انفصل عنهم وتركهم فحينئذ ينزل عليهم العذاب.
وقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))، ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين.
قال الطيبي: وهذا الوجه أبلغ؛ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة.
وهذا معنىً لطيف جداً، فقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ))، أي: المشركين ((وَهُمْ)) أي المؤمنون ((يَسْتَغْفِرُونَ)) فالضمير (هم) لا يعود على المشركين، وإنما يعود على المؤمنين المستضعفين الذين كانوا موجودين بين ظهرانيهم، فهذا الوجه سر بلاغته أن فيه دلالة على أن بركة المؤمن متعدية، حتى إنها لتطال من يستحق نزول العذاب، فوجود الصالحين يكون مانعاً من نزول العذاب.
الوجه الثاني: أن المراد به: دعاء الكفرة بالمغفرة؛ لأنهم كانوا في الطواف يقولون: غفرانك غفرانك، كما رواه ابن أبي حاتم، فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعاً من عذابه ولو من الكفرة.
الوجه الثالث: أن المراد بالاستغفار التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره، فيكون القيد منفياً في هذا.
فقوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) يعني: أن المقصود من الاستغفار: التوبة، والتوبة ينبغي أن تكون من الكفر، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا} [الأنفال:٣٨] يعني: بالتوبة {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:٣٨]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة:٥] يعني: تابوا إلى الإسلام والتوحيد.
قال القاشاني: العذاب ثورة الغضب وأثره، فلا يكون إلا من غضب النبي أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان صورة الرحمة، والله تعالى قال في شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧]، فلهذا لما كسروا رباعيته قال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:٢٦]، فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب، فهو رحمة حتى على الكفار، وكذا وجود الاستغفار، فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب، فالاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته، بل الاستغفار يوجب زواله، فلا يتسبب لغضب الله، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزل الله علي أمانين لأمتي: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة).
وعلى أي الأحوال يقول: ابن كثير: يشهد لها ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك! لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله تعالى: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني)، وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى عليه وسلم أنه قال: (العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله).
ثم بين تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم، فالله سبحانه وتعالى قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)) وفي هذا تأمينهم من نزول العذاب الذي استفتحوا وطلبوه.
فالأمة كان فيها أمانان لنزول العذاب: الأمان الأول: وجود الرسول عليه السلام الذي هو رحمة للعالمين.
الأمان الثاني: فإذا مضى الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ربه بقي الأمان الآخر الذي ينبغي لنا جميعاً أن نتشبث به، وهو كثرة الاستغفار؛ لقوله عز وجل: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)).