[تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)]
قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:٦١].
(ومنهم) أي: من الذين يحلفون بالله من يفعل أشد من اللمز في قسم الصدقات؛ لأنهم يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن أذية النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر المهلكة، ويكفي في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قرن أذيته بأذية رسوله وفصلها عن أذية المؤمنين في سورة الأحزاب: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:٥٧]، ثم قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب:٥٨]، ففصل بين أذيته وأذية المؤمنين، وقرن أذية الله بأذية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال هنا: (ومنهم الذين يؤذون النبي) كيف يؤذونه؟ يقولون: هو أذن، يعني: يسمع كل ما يقال له ويصدقه، يعنون أنه ليس بعيد الغور بل سريع الاغترار بكل ما يسمع! قال أبو السعود: وإنما قالوه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوه، ويصفح عنهم حلماً وكرماً، فحملوه على سلامة القلب وقالوا ما قالوا.
قال اللغويون: الأذن: الرجل المستمع الذي يصدق كل ما يقال له، وصفوا به الواحد والجمع، يعني يقال: رجل أذن، ورجال أذن، وامرأة أذن، فلا يثنى ولا يجمع، وإنما سموه باسم العضو تهويلاً وتشنيعاً، فهو مجاز مرسل، فأطلق الجزء وأراد الكل، فأطلق الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته -لفرط استماعه- آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً لذلك، ونحو ذلك قول الشاعر: إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن حدثوا عنها فكلي مسامع وجعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن، في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل، وليس بشيء يعتد به، وقيل: إنه على تقدير مضاف، أذن يعني: ذو أذن، قال الشهاب: وهو مذهب لرونقه.
ثم قال تبارك وتعالى: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، أنتم تعيبونه صلى الله عليه وسلم بوصفه بأنه أذن، نعم هو أذن ولكنه أذن خير لكم، وهذه من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة كما تقول: رجل صدق، مبالغة في الجود والصلاح، أو إضافته على معنى فيه: (قل أذن خير لكم) أي: هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك، ودل عليه قراءة حمزة.
(ورحمة) يعني: أذن خير ورحمة، بالجر عطفاً عليه، أي: هو أذن خير لكم ورحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله.
ثم فسر كونه (أذن خير) بقوله: ((قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ))، قال القاشاني: هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته؛ لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب، ولطافة النفس ولينها.
((وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)) أي: يصدق قولهم في الخيرات، ويسمع كلامهم فيها ويقبله.
((وَرَحْمَةٌ)) أي: وهو رحمة للذين آمنوا منكم، يعطف عليهم ويرق لهم، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم بالبر والصلة، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف باتباعهم إياه فيها، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل إلى غير ذلك.
وقال غير القاشاني: هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم معشر المنافقين، حيث يقبل منكم الظاهر لا تصديقاً لكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى من الحكمة في الإبقاء عليكم.
والمعنى: هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها، ويستمع للمؤمنين فيسلم لهم ما يقولون ويصدقهم، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله ولا يثقون بها، ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه كما زعموا.
ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ)، بما نقل عنهم من قولهم: هو أذن، (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، بما يجترئون عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا شك أن قوله تعالى: (والذين يؤذون رسول الله)، أورد ذكره بعنوان الرسالة مضافاً إلى الاسم الجليل: (والذين يؤذون رسول الله)، ولم يقل: الذين يؤذونه؛ لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته راجعة إلى جناب الله عز وجل، وتوجب كمال السخط والغضب؛ لأنها أذية لله سبحانه وتعالى.