للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى)]

قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:٣٦] قال بعض المفسرين: هلك عمران بعد ذلك وهي حامل، كلمة هلك تأتي في سياق الذم، كما تقول: هلك الطاغوت الفلاني مثلاً، لكن قد يعبر بها أحياناً عن الموت، كما قال تبارك وتعالى حاكياً على لسان مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:٣٤]، كذلك قوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:١٧٦] أي مات؛ ولذلك يشيع في مسائل الميراث هلك هالك عن كذا وكذا.

((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا)) أي: ولدتها جارية.

يعود الضمير في قوله: ((وضعتها)) إلى مذكور من قبل في الآية السابقة: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} [آل عمران:٣٥ - ٣٦]، الضمير يعود إلى؟ إلى ((ما)) التي في قولها: ((ما في بطني محرراً)) والأصل أنه يكون مذكراً؛ لكن أنث على المعنى؛ لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله.

أو يكون على تأويل: ((فلما وضعتها)) أي: هذه النسمة أو هذه النفس، وهي مؤنث.

((فلما وضعتها)) أي: ولدتها جارية، وكانت ترجو أن يكون غلاماً، إذ لم يكن يحرر إلا الغلمان، قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:٣٦] إما أنها قالت ذلك على سبيل الاعتذار، أو أنها تحسرت؛ لأنها كانت أنثى، إذ جهلت قدرها، ولو علمت أم مريم عليها السلام قدر مريم لما تحسرت، لكن إن قلنا: إنها تحسرت فيكون ذلك على أنها جهلت قدر مريم عليها السلام.

((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ)) أي: معتذرة أو متحسرة، إذ جهلت قدرها: ((رَبِّ)) أي: يا رب، ((إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)) أي: أن الله عالم بما وضعت.

وفي قراءة: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتُ))، بضم التاء، أو: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتِ)) بكسر التاء على أنه خطاب من الملائكة.

((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ))، هذه جملة اعتراض من كلامه سبحانه وتعالى.

((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) أي: ليس الذكر الذي طلبتُ كالأنثى التي وهبت؛ لأن الذكر يحرر ويقصد للخدمة، والأنثى لا تصلح لها؛ لضعفها وعورتها، وما يعتريها من الحيض ونحوه، مما يمنع أن تتفرغ لهذه العبادة.

((وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ))، ومريم في لغتهم هي العابدة، سمتها بذلك تفاؤلاً ورجاء أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها.

وهكذا ينبغي عند اختيار الأسامي أن يتفاءل الإنسان عندما يسمي ابنه أو بنته، عسى أن يكون مثل هذا المسمى.

((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا)) أي: أولادها، ولم يكن لها من الذرية سوى المسيح عليه السلام.

((مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) بمعنى: المرجوم المطرود، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها)، وهذا رواه الشيخان وغيرهما.

فقوله: (ما من مولود يولد): هذا يعم كل مولود بما في ذلك الأنبياء والمرسلين، وإلا لما كان لاختصاص مريم وعيسى عليهما السلام بهذا الأمر معنى.

ليس معنى ذلك: أن الشيطان إذا نزغ أو نفث في خاصرة هذا المولود أنه يكون مسلطاً عليه؛ لا يشترط ذلك؛ لأن الأنبياء معصومون من ذلك: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:٤٢] لكن هو عبارة عن إعلان بالعداوة منذُ اللحظة الأولى، لا شك أن هذا الصراخ الذي يحصل من الطفل المولود عند ولادته له سببان: السبب الأول: سبب مادي يمكن التوصل إليه بالخبرات البشرية والعلم البشري، فلذلك تركه الله سبحانه وتعالى للأطباء والمتخصصين في هذا المجال، برقي علمهم يكتشفون هذه الأسباب، وفوائد الصراخ بالنسبة للمولود وغير ذلك.

السبب الثاني: وهو السبب الغيبي الذي لا يمكن أن يدرك بالحواس، ولا بتجارب ولا بعلوم مادية تترقى من وقت لآخر، فهو سبب غيبي لا نراه؛ ولذلك أخبرنا عنه الله تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً)، كما جاء في بعض الروايات: (يصرخ)، لماذا يصرخ؟ السبب الذي لا نستطيع أن نعرفه إلا من طريق الوحي، هو هذا الذي ذكره عليه الصلاة والسلام، وهو: (أن الشيطان يعلن له العداوة منذُ اللحظة الأولى فينخسه ويطعنه في خاصرته أو في جنبه فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه، استجابة لدعوة امرأة عمران حينما قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:٣٦]، فهذا الحديث يدل على إجابة هذه الدعوة.