للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين)]

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:١١٦].

(إذ) في كلام العرب تكون لما مضى، لكن يدل على أنها في يوم القيامة السياق، حيث قال تعالى: (يوم يجمع الله الرسل) فالسياق كله في يوم القيامة، وما بعده -أيضاً- يدل على ذلك، وهو قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:١١٩]، وهو يوم القيامة.

فإذاً: هي لما مضى لكن المراد بها هنا ما يستقبل، فمعناها هنا (إذا) كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} [سبأ:٥١]، أي: ولو ترى إذا فزعوا.

وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع، وفي التنزيل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:٥٠]، ومثله كثير في القرآن الكريم، يعبر عن المستقبل بالماضي لإفادة تحقق وقوعه، كأنه حصل وصار خبراً يذكر.

قوله تعالى: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، هذا القول: إما أنه إلزام للنصارى لعنهم الله؛ لأن الولد من جنس من يلده، فإذا زعمتم أن المولود إله فمن ولده يكون إلهاً، فهذا بطريقة الإلزام.

وإما لأنهم لما عظموهما تعظيماً إلهياً أطلق عليهما اسم الإله، كما أطلق على الأحبار والرهبان اسم الرب في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة:٣١] والتثنية حينئذٍ على حد (القلم أحد اللسانين) فكذلك هنا التثنية في قوله: ((اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)).

ولفظ (أمي) على لسان المسيح في مريم فيه توبيخ للمتخذين لهما إلهين، يعني: أما كنت بشراً تلد وتولد قبل هذا؟! وقوله تعالى: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) يعني: أنا مربوب ولست برب، وأنا عابد ولست بمعبود.

وقوله: (قال سبحانك) أي: براءة لك من السوء، أو أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يقال هذا وينطق به.

وقوله: (ما يكون لي) أي: ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق (أن أقول) في حق نفسي (ما ليس لي بحق)، وهو ما استقر في قلوب العقلاء من عدم استحقاقي للعبادة (إن كنت قلته فقد علمته).

(تعلم ما في نفسي) يعني: ما أضمره (ولا أعلم ما في نفسك) ما عندك علمه، وهذا بيان للواقع، وإظهار لقصوره وعجزه، أي: أن ما يخفيه الله من علمه لا يعلمه المسيح عليه السلام.

(إنك أنت علام الغيوب) وهذا دليل للدليل؛ لأن المسيح أولاً ذكر دعوى، وهي في قوله: (إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)، ثم استدل عليها بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، ثم دلل للدليل نفسه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فأكده بـ (إن)، ثم (أنت) الضمير المنفصل و (علام) صيغة المبالغة (الغيوب) فأتى بالغيب مع صيغة الجمع مع (أل) الإستغراقية التي تشمل كل ادعاء غيب آخر، فقال: (إنك أنت علام الغيوب) الذي تعلم كل غيب، فهذا تأكيد بعد تأكيد.

واختلف في إطلاق النفس على الله سبحانه وتعالى كما في قوله: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فقيل: لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة، كما هو هنا؛ لأنهما وردا في نص واحد، فللمجاورة حصلت هذه المشاكلة في اللفظ، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:٥٤].

والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة، أي: من غير أن يوجد لفظ (النفس) في نفس السياق؛ إذ قد ورد إطلاقها في غير المشاكلة، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:٥٤]، وقال أيضاً: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:٢٨].