((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) فقولوا لهم: سيحوا في الأرض، أي: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، فلكم مدة أربعة أشهر، وهذا الخطاب موجه لطائفة معينة من المعاهدين سوف نبينهم إن شاء الله، أي: لكم أن تسيروا في الأرض بحرية لمدة أربعة أشهر، وقد بيَّن الله تعالى في سورة الأنفال أن المسلمين بينهم وبين المشركين عهد:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}[الأنفال:٥٨]، فهذا نبذ للعهد، وإعلان لانقضاء العهد، وهناك مهلة زمنية لكم تتحركون فيها بحرية لمدة أربعة أشهر لا يتعرض لكم أحد، لكن بعد انتهائها، لا يوجد عهد بيننا وبينكم.
وتبدأ هذه الأربعة أشهر من يوم النحر؛ لأنه بعد ذلك قال:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ}[التوبة:٣] أي: يوم النحر، فهي من أول أيام عيد الأضحى إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر.
والمقصود من هذا الأمر:((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) أي: أنتم آمنون، فسيروا في الأرض حيث شئتم، فالمقصود تأمينهم من القتل وتفكرهم واحتياطهم ليعلموا أنه ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم، وهذه الأربعة الأشهر كانت عهداً لمن له عهد دون الأربعة الأشهر فأتمت له، فإن من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت لقوله تعالى:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}[التوبة:٤]، ويوضح هذا العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى:{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}[التوبة:١ - ٢]، فيقول الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ) فقوله: (الذين) تفيد عموم أي فئة من المعاهدين من الكفار: ((إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))، فظاهر الآية يفيد العموم، عموم كل من عاهده المسلمون، فَيُفهم منها أنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله:((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) أنه لا عهد لكافر، فمعناها: بعدما تمر أربعة أشهر، لا يبقى لأي كافر على الإطلاق مهما كانت مدة عهده عهد، وتكون نبذت ونقضت جميع العهود، وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء، والذي يبينه القرآن الكريم ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده المؤقت أقل من أربعة أشهر، يعني: هذه البراءة وهذا الكلام بلفظ العهود، يتناول طائفتين من الناس، الأولى: هي طائفة أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، فهؤلاء أول من يقصدون بهذه البراءة، الذين هم أصحاب العهود المطلقة التي لم يحدد لها أجل أو نهاية، هذا هو القسم الأول.
القسم الثاني: من كانت مدة عهده مؤقتة ومؤجلة لأقل من أربعة أشهر.
وقد روى الأئمة هاهنا آثاراً كثيرة فيما يتعلق بنزول هذه السورة المباركة، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ فأراد الحج -أراد أن يحج في هذه السنة- ثم قال:(إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج)، أبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج، والحال أن المشركين على عادتهم القبيحة، فلم يحب أن يحج ولا أن يذهب إلى البيت إلا بعد أن يقضي على هذه العادة القبيحة، فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد أن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يؤمنوا، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فهو له إلى مدته، فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج الذي كانوا عليه في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته.
فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، يعني: يعلنون للناس في منى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بـ علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، يعلن عليهم هذه البراءة، وقال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منىً يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وإنما قيل:(يوم الحج الأكبر)؛ لأن الناس عادتهم أنهم يسمون العمرة: الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام إلى آخره.
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه في رواية أخرى: فكنت أنادي حتى صحل صوتي، -بالصاد- يعني: بح صوتي من كثرة ما كان يعلن في الموسم هذا البيان.