[تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم)]
قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} هذه الفاء لترتيب مع بعدها على ما قبلها، و (كيف) في محل رفع خبر مقدم، والتقدير: فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة؟! أو هي في محل نصب لفعل محذوف، والتقدير: فكيف يصنعون إذا توفتهم الملائكة؟! أو أن (كيف) خبر لكان مقدرة، أي: فكيف يكونون إذا توفتهم الملائكة؟! والظرف معلوم للمقدر إذا.
وأما جملة (يضربون) فهي في محل نصب حال.
وأما القراءات في هذه الآية: فقرأ الجمهور: ((فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ))، وقرأ الأعمش: (فكيف إذا توفاهم الملائكة).
قوله: ((يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ)) أي: يضربون وجوههم التي ولوها عن الله إلى أعداء الله؛ لأنهم كانوا يوالون أعداء الله، وكانوا يقولون: ((لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ)).
ولوا وجوههم إلى أعداء الله وصرفوها عن الله، فلذلك تأتي الملائكة عند خروج أرواحهم يضربون وجوههم وأدبارهم التي ولوها عن الأعداء إلى الله، وفي الكلام تخويف وتهديد، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه.
وقيل: لا يتوفى أحد على معصية إلا وتضرب الملائكة في وجهه ودبره، وقيل: ذلك عند القتال؛ نصرة من الملائكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضربون وجوههم عند الطلب، وأدبارهم عند الهرب، فإذا كانت الملائكة تطاردهم وجهاً لوجه فيضربون وجوههم، أما إذا أدركتهم الملائكة وهم يفرون فإنهم يضربون أدبارهم عند الهرب.
وقيل: ذلك يوم القيامة عند سوقهم إلى النار، والأول أولى، أي: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فعما قريب سيأتيهم الأجل شاءوا أم أبوا، ويشهد لهذا -يعني: يشهد لهذا القول أنه عند الاحتضار- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:٥٠]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:٩٣] ((بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ)) أي: بالضرب، {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:٩٣].
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ)) أي: ذلك التوفي المذكور على الصفة المذكورة، ((بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)) من الكفر والمعاصي، وقيل: كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى الله عليه وسلم، والأول أولى؛ لما في الصيغة من العموم، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ))، وهذه صيغة عموم تعم كل ما يسخط الله، ولا تقتصر على التكذيب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ)) أي: كرهوا ما يرضاه من الإيمان والتوحيد والطاعة، والإسخاط: هو استجلاب السخط، وهو الغضب هنا، ((وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ))؛ لأن من أطاع من كره ما أنزل الله فقد كره رضوان الله؛ لأن رضوان الله تعالى ليس إلا في العمل بما نزل، فاستلزم كراهة ما نزل كراهة رضوانه؛ لأن رضوانه فيما نزل، ومن أطاع كارهه فهو ككارهه، ((فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطلها، والمراد أعمالهم التي صورتها صورة الطاعة، وإلا فلا عمل للكافر، أو أحبط ما عملوه قبل الردة من أعمال الخير.