[تفسير قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)]
قال الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:٧٧].
((أَوَلا يَعْلَمُونَ))، الاستفهام هنا للتقرير، والواو الداخلة عليها للعطف.
((أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ))، ما يخفون وما يظهرون من ذلك وغيره؛ فيرعووا عن ذلك، وينكفوا عنه.
وبعد أن ساق الكلام في حق الذين حرفوا التوراة وهم الأحبار، انتقل الكلام إلى المقلدين الذين ضلوا بتقليد هؤلاء الرؤساء الضالين، فقال: {وَمِنْهُمْ} [البقرة:٧٨] أي: اليهود، {أُمِّيُّونَ} [البقرة:٧٨] عوام.
{لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:٧٨]، أي: التوراة.
{إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]، أي: لكن أماني، وهذا استثناء منقطع، أي: لكن يعلمون أماني، والأماني هي أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها، وقلدوهم في ذلك.
{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:٧٨] (إن) بمعنى: ما، يعني: ما هم إلا يظنون، وذلك في جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره مما يختلقونه، فهم يظنون ظناً ولا علم لهم، والظن لا يغني من الحق شيئاً.
إذاً: قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]، هذه الآية في حق المقلدين من اليهود.
(منهم)، من أهل الكتاب.
(أميون)، جمع أمي، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة.
(لا يعلمون الكتاب)، لا يدرون ما فيه؛ لأنهم لا يستطيعون الاطلاع على الكتاب؛ لأنهم لا يحسنون الكتابة، وصفة الأمية لا تعني عدم العلم؛ لأن العلم يحصل بواسطة طرائق أخرى أعلاها وأسماها وأجلها الوحي كما حصل لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهنا وصفهم بالأمية وبعدم العلم؛ فهم لا يدرون ما فيه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنه أمي، لماذا؟ لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨]، فإن الله سبحانه وتعالى جعل معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من أجلى المعجزات، فمع كونه أمياً أتى بهذا الكتاب الذي أعجز الفصحاء والبلغاء، وتحدى به الإنس والجن أجمعين، فلم يقبل واحداً منهم التحدي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)، أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتنا إلى كتاب ولا حساب، وهذا ليس مدحاً للأمية لكنه إشارة إلى يسر الشريعة الإسلامية، وأنها شريعة سهلة يستطيع أن يطبقها الشخص الأمي البدوي في الصحراء وعالم الفلك سواء بسواء، إذ كلاهما يستطيع أن يعرف متى وقت الفجر والظهر والعصر عن طريق الظل والشمس، كذلك متى يدخل الشهر ومتى يخرج.
هذا معنى أمة أمية، يعني: شريعتنا شريعة تخاطبنا بما هو معهود للأميين البساطة والسهولة واليسر، فكل الناس يستوون في سهولة تحصيل العلم وتطبيق هذه الشرائع، قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:٢]، عليه الصلاة والسلام.
يقول ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه إشارة إلى أنه باق على أصل ولادة أمه، كما قال الله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:٧٨]، أي: فهو باق على أصل هذه النسبة إلى أمه من ساعة ما ولد من بطن أمه وهو باق لم يكتسب التعلم بالكتابة والحساب.
وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]، هذا استثناء منقطع، وتأتي فيه إلا بمعنى لكن، مثل قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:٢٧]، هل معنى ذلك: أن الله كتبها عليهم ابتغاء مرضاته؟ لا، لكن المقصود: ما أمرناهم بالرهبانية، وتحريم الطيبات، لكن كتبنا عليهم ابتغاء مرضات الله بالعبادات الشرعية، و (إلا) هنا أيضاً مثل قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:١٥٧] أي: لكن اتباع الظن؛ لأن العلم يتنافى مع الظن، وكذلك قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:١٦] يعني: لكن لم تعتزلوا عبادة الله، وليس المعنى أنهم يعبدون الله مع غيره.
وما الدليل على أن الاستثناء هنا منقطع في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]؟ لأن ما يتمنى وما يختلق وما يتلى ليس من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم، فإن هذه الأماني ليست من جنس الكتاب حتى تستثنى منه ويكون استثناءً منفصلاً، بل هي أماني وأكاذيب كان يخترعها أحبارهم.
فلذلك نقول: ليس ما يتمنى ويختلق ويتلى من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم.
(وأماني) جمع أمنية، أصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأعلت إعلال سيد وميت مع أن الألف فيهما أصلها الواو، وقال بعض العلماء: تمنى الشيء، يعني: قدره وأحب أن يصير إليه، وتمنى الكتاب قرأه، وتمنى أيضاً تأتي بمعنى كذب، يقول عثمان: ما تمنيت منذ أسلمت، يعني: ما كذبت منذ أسلمت.
فهم لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون الأماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة التي لا تستند إلى الكتاب بل هي على زعم رؤسائهم، مثلما ما حكى الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:١١١] فهذه أحلامهم وأمانيهم وأكاذيبهم، وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣]، وقال تبارك وتعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:١١١].
أو يكون معنى الآية: لا يعلمون الكتاب لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد، وحمله البعض على القراءة، وقالوا: الأماني المقصود بها القراءة، واستشهدوا على ذلك بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:٥٢] أي: في قراءته.
وقال كعب بن مالك في عثمان رضي الله عنه: تمنى كتاب الله أول نيله وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل (تمنى) يعني: قرأ كتاب الله.
على هذا يكون تفسير الآية: لا يعلمون الكتاب إلا مجرد تلاوة فقط وألفاظ يقرءونها دون إدراك معانيها، وهذا القول قول مرجوح، ولا يتناسب مع قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]، فالأمي لا يقرأ، فلذلك يترجح التفسير الأول: إلا أكاذيب اختلقها لهم أحبارهم ومنوهم بها، مثل قولهم: لو دخلنا النار فلن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، أو: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:١١١]، أو: نحن شعب الله المختار، إلى غير ذلك من الأماني التي يمنيهم بها رؤساءهم وأحبارهم.