[تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله)]
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:١٨٠].
قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}، بالياء والتاء.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، أي: بزكاته.
{هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: هذا البخل خيراً لهم.
أي: لا تحسبن بخل الباخلين خيراً لهم، أو لا يحسبن الباخلون بخلهم خيراً لهم.
{بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}، يعني: ما بخلوا بزكاته من المال.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -اللهزمتان: جانبا الفم- ويقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ))).
{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: يرثهما بعد فناء أهلهما، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء، {خَبِيرٌ} فيجازيكم به.
يقول القاسمي: اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه، وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله، يعني: أن هذا المال ليس مالهم وإنما هو عطية من الله.
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) ليس مالهم وإنما هو مال الله تبارك وتعالى؛ للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله، أي: إذا كان الله هو الذي أعطاك فيجب عليك أن تبذل في سبيله هذا القدر البسيط، وهو نسبة الزكاة المعروفة، كما قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:٧]، فلا يحسبن هؤلاء ذلك خيراً لهم بل هو شر لهم؛ لأنه سيجلب لهم العقاب (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) وقد جاءت أحاديث كثيرة في تفاصيل هذا العذاب أشرنا إلى طرف منها.
ثم أشار تعالى إلى أنهم وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله فهي راجعة إليه: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، أي: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقون في سبيله؟ ونظيره قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:٧] فهذا على حقيقته، كما قال الزجاج: أي أن الله تعالى يفني أهلهما فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون؛ لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، يعني: فيجازيكم على المنع والبخل، وفي قراءة أخرى (والله بما تعملون خبير) فيجازيكم به.