[أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنحر والحلق في الحديبية]
يقول: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله! ما قام منهم رجل.
كانوا في حالة من الغم والاكتئاب والحزن؛ بسبب ما شعروا أن الصلح هضم للمسلمين وإجحاف بهم.
قال: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً).
قوله: فلما فرغ من قضية الكتاب، وزاد ابن إسحاق: فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين، ومنهم: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهم ومكرز بن حفص وهو مشرك.
قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وهم في حالة إحرام، وقد أحصروا عن البيت، وحال العدو بينهم وبين البيت، ومن أحكام الإحصار التحلل، فكان يجب أن يتحللوا ويحلقوا، فهم تباطئوا لشدة الغم والحزن من هذا الموقف، كيف بعد هذه المدة من الحرمان من البيت والكعبة أن يحال بينهم وبين الطواف؟! وقد كان عندهم أمل عظيم، وهم مستعدون أن يقاتلوا في سبيل أن يصلوا إلى الكعبة ويعتمروا فيها، فهذا كان سبب الصدمة الشديدة التي عانوا منها، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام بعدما فرغ من العقد والكتاب: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون يعني: إلى جهة الحرم، وكان يمكن أن يرسلوا الهدي إلى الحرم ويواعدوا شخصاً يأخذه وينحره في وقت معين.
يقول: فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون -يعني إلى جهة الحرم- حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:٢٥]، فمنعوا هذا الهدي أن يبلغ محله وهو داخل الحرم، فالمشركون منعوه من ذلك؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بالنحر في نفس المكان الذي هم فيه؛ حتى يتحللوا من الإحرام.
قوله: (فوالله ما قام منهم رجل) قيل: كأنهم توقفوا عن الامتثال لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو تباطئوا رجاء نزول الوحي لإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك؛ لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا ألهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة.
يعني: كانوا في حالة من الاندهاش والاستغراق في التفكير فيما ألم بهم، خاصة أنهم قادرون على أن يقاتلوا المشركين، وأن يصلوا إلى الكعبة بعد هذا الحرمان لسنوت طويلة، وحيل بينهم وبين العمرة أو الحج، فلذلك كانوا في غاية الغم والحزن والشعور بالذل، مع ظهور قوتهم واعتقادهم أنهم قادرون على أن يغلبوهم ويقهروهم، ويدخلوا إلى البيت الحرام أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور كما سيأتي من كلام أم سلمة، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب؛ لما يتطرق القصة من الاحتمال، والدليل إذا قارنه الاحتمال سقط به الاستدلال.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما قال لهم ذلك ثلاث مرات ولم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، وفي رواية ابن إسحاق فقال لها: (ألا ترين إلى الناس! إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه!)، وفي رواية: (فاشتد ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا!)، قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـ أم سلمة: انكشف العذاب عنهم والإهلاك برأي أم سلمة الرأي الصائب والحكيم هو الذي رفع عنهم هذا الحرج، وهذا الضيق والهلاك الذي أوشك أن ينزل بهم.
قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـ أم سلمة رضي الله عنها، فلما شكا إلى أم سلمة ما وجده من الناس، قالت أم سلمة: (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم) زاد ابن إسحاق: قالت أم سلمة: (يا رسول الله! لا تكلمهم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح) يعني: هم في حالة إحباط شديد مستغرقين ومدهوشين مما يحصل، فـ أم سلمة التمست العذر للصحابة رضي الله تعالى عنهم، قالت: (يا رسول الله! لا تكلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح) ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، ويحتمل أنها فهمت أن الصحابة فهموا أن الرسول عليه السلام لما بقي على حالة الإحرام وهم محرمون أيضاً، فلما أمرهم أن يحلوا هم، رأوا أن الرسول عليه السلام لم يتحلل، وهم سوف يتحللون، ولذلك جاءت نصيحتها صائبة تماماً حتى تذهب هذا الوهم، فلما حل من إحرامه كأنه قال: حتى أنا سأتحلل وسيجري عليكم ما سيجري علي، فربما كانوا فهموا قبل نصيحة أم سلمة رضي الله عنها أنهم هم الذين سيتحللون أما الرسول فسيبقى على إحرامه.
يقول الحافظ: ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، وأنه هو سيستمر على الإحرام أخذاً بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر.
وفيه فضل المشورة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شاور أم سلمة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقاً أبلغ من القول، لكن الفعل إذا انضم إلى القول يكون أقوى من القول المجرد.
وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة، خلافاً لأحاديث كثيرة موضوعة في هذا الأمر، مثل حديث: (شاوروهن وخالفوهن، فإن في مخالفتهن البركة)، ولا شك أن بعضهن كذلك، ولكن قد تكون المرأة عاقلة كـ أم سلمة، وممكن أن المرأة تتفوق على مئات من الرجال: فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال عموماً هذا موقف عظيم رواه البخاري، فالرسول عليه السلام أخذ بمشورة أم سلمة، ومن سيرتها يعلم أنها امرأة عاقلة وحكيمة، وآتاها الله سبحانه وتعالى رجاحة العقل، ونحن نعرف أن كثيراً من النساء تقاس بمئات من الرجال؛ لرجاحة عقولهن وقوة رأيهن، لكن إن كن بخلاف ذلك فينبغي الحذر.
وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة وفضل أم سلمة ورجاحة عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة! وهذه مبالغة من إمام الحرمين، وإلا فنحن نستطيع أن نأتي بأدلة من القرآن والسنة والسيرة والتاريخ بخلاف ذلك، فمن ذلك: بلقيس كانت امرأة عاقلة في غاية الرجاحة، وانتهى بها عقلها إلى أن أسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
كذلك ابنة شعيب في قصة موسى ما كان أعقلها في قولها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:٢٦]، فهذه من المشورة الصائبة، وأي شرف أعظم من أن يصاهر الرجل نبي الله وكليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟! كذلك امرأة فرعون لما قالت له: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:٩].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد).
أيضاً في العصر المتأخر من النساء اللاتي رجح عقلهن زوجة الإمام محمد بن سعود أمير الدرعية واسمها موضي بنت وهطان، فعندما أوى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إلى الأمير محمد بن سعود في الدرعية يستنصره ويطلبه بأن يساند هذه الدعوة بقوته وبأسه؛ كانت امرأته عاقلة جداً، ومن نوادر النساء، فقد انفردت بزوجها وشجعته، وكان من إخوته من هم تلامذة لشيخ الإسلام، فأتى أخواه وكلما زوجته أن الأمير محمد بن سعود لو أيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سيكون ذلك فتحاً كبيراً، ونصراً عظيماً للإسلام، فرغبت هي زوجها وشجعته على أن يؤوي شيخ الإسلام رحمه الله ويحميه، وبسبب ذلك وقعت هذه الحركة التجديدية التي لم يأت مثلها حتى اليوم وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمر