[تفسير قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون)]
قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٢].
((قل)) أي: لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وبطباعهم.
((من حرم زينة الله)) يعني: من الثياب وسائر ما يتجمل به، (التي أخرج لعباده) يعني: أخرجها من النبات كالقطن والكتان، وأخرجها من الحيوان: كالحرير والصوف، ومن المعادن كالدروع، هكذا عمم المفسرون هنا.
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) أي: من المستلذات من المآكل والمشارب.
قال المهايمي: إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل -الذي هو العبادة- فيحرمان معها فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته، ليتزينوا بها حال العبادة.
وهذا طبعاً كان مفهوماً طارئاً على الإسلام، وإن كانت الصوفية قد اقتبسته من الرهابنة ومن نساك النصارى، وهو أن كل ما يتمتع به الإنسان من ملاذ الدنيا، فهو مضاد لعبادة الله سبحانه وتعالى، فيزعمون أن التزين والتلذذ ينافي ويضاد التذلل والعبادة، ولهذا حرموا هذه الطيبات لأنها تنافي عبادة الله سبحانه وتعالى.
فهذه الآية ترد على هؤلاء، حيث أعلمهم سبحانه وتعالى فيها أنه قد أخرج هذه الطيبات لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة، ولذلك أمرنا بالتزين: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)).
((قل من حرم)): ائتونا بدليل ((من حرم زينة الله التي أخرج لعباده))، فهذه الزينة أخرجها لعباده الأتقياء العباد ليتزينوا بها حال العبادة، فعبيد الملوك يحرصون على التزين وأن يظهروا بمظهر لائق أمام سادتهم، ولا ينافي ذلك تذللهم لهؤلاء الملوك، ولله المثل الأعلى، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده، فهي نعمة على عباده الموحدين ليشكروه، والشكر عبادة، ويكون على التنعم بنعم الله سبحانه وتعالى، فلا ينافي الشكر العبادة لأن الشكر في حد ذاته عبادة يحبها الله سبحانه وتعالى.
بل قد يكون الشكر مدعاة إلى هذه العبادة: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧]، والشكر ليس بالكلام، إنما الشكر بالعمل، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:١٣]، وذلك بأن تصرف النعمة في مرضاة مهديها ومعطيها وهو الله سبحانه وتعالى.
وفسرت الطيبات في قوله: ((وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)): بالحلال، وفسرت أيضاً: باللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم، وفسرت: بالبحائر والسوائب كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} [يونس:٥٩]، إلى آخر الآية.
والعبرة بعموم اللفظ، فكل ما ذكر يدخل في الآية دخولاً أولياً.
وقوله: ((قل من حرم زينة الله)) هذا اللفظ يتناول جميع أنواع التزين، ومنه تنظيف البدن؛ لأن العرب كان عندها مثل مشهور يقولون: أطيب الطيب الماء، يعني: الإنسان يهتم بنظافة بدنه بالماء نظافة جيدة، ثم بعد ذلك يضع الطيب، وإنما اشتهر الغربيون بالعطور لأنهم ما كانوا يعرفون عادة الاغتسال، وحتى الآن قد يمكث الواحد مدة طويلة قد تزيد على سنة لا يقرب الماء، فلما كانت تتراكم على أجسادهم الروائح الخبيثة والعرق كانوا يجتهدون في اختراع العطور التي تحاول أن تغطي هذه الروائح المنتنة التي تنبعث من أجسادهم، وهم ما عرفوا الاستحمام إلا من المسلمين عندما كانوا في الأندلس، فكان الطلبة يفدون للتعلم من المسلمين، فإذا عادوا نقلوا من المسلمين هذه العادات، حتى إنه لما كان أيام نفي المسلمين من الأندلس وكان من المسلمين من ينكر أنه مسلم بسبب المذابح التي حصلت في محاكم التفتيش، فكانوا يلجئون إلى التعرف على هؤلاء الناس، هل هم مسلمون أم غير مسلمين بأن يفتشوا البيوت، فالبيت الذي فيه حمام هو بيت مسلم، فيقتلون من فيه أو يجبرونه على التنصر، فكانت علامة الإسلام وجود حمام في البيت.
فالأوروبيون ما برعوا في صناعة العطور -وبالذات العطور الفارسية المشهورة- إلا بسبب أنهم كانوا يجتهدون في اصطناع العطور التي تغطي الروائح المنبعثة من أجسامهم، وهذا إلى الآن موجود، ومن عاش مع القوم يعرف هذه الروائح الخبيثة التي يكاد الإنسان أن يختنق منها، وهذا كلام حقيقي ليس مجازياً، وفي وقت من الأوقات توقف المصعد ودخل بعض هؤلاء الكفرة، فما وجدت حيلة سوى أني أتوقف تماماً عن التنفس، وإلا فالإنسان يكاد يختنق من خبث روائحهم.
فالإسلام دين النظافة، وأهم النظافة هو ما يزيل هذه الروائح، فالإنسان يهتم أولاً بتطييب بدنه بالماء، ثم بعد ذلك يضع العطور ويضع الروائح الطيبة.
فالزينة تشمل جميع أنواع التزين ومنه تنظيف البدن، ومنه المركوب، ومنه أنواع الحلي، يعني: حلي النساء، ويدخل تحت الطيبات: كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، ولا حرج في ذلك على الإطلاق، ما دام يصادف ما أحل الله سبحانه وتعالى للمؤمن، ويروى الحديث بلفظ موضوع: (حبب إلي من دنياكم ثلاث)، فكلمة (ثلاث) معناه: إن الصلاة تكون من الدنيا، وفي هذا المعنى نكارة إلى جانب عدم ثبوته.
وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، حيث هم عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه بالتبتل والاختصاء كي يتقي الشهوة، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأن هذا ليس من هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
وذهب ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها لما أخبروا بها، فكل واحد أراد أن يسلك مسلكاً من الاجتهاد في العبادة والامتناع عن الطيبات، يظن أنه يقربه إلى الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب وقال: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، أي: ليس على هديي، وليس على طريقي، وليس على ديني، فانظر كيف زجر بهذا الزجر الشديد الذي يقال غالباً في الكبائر من الذنوب، وذلك لأجل إبطال هذه العادات المقتبسة من الرهابنة ومن غير المسلمين.
ودلت الآيات على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة؛ لأن الاستفهام في قوله: (قل من حرم) لإنكار تحريمها على وجه بليغ؛ لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه.
وفي الآية رد على من تورع في أكل المستلذات ولبس الملابس الأنيقة، ويمكن أن تراجع التفاصيل في كتاب: تلبيس إبليس، أو نقد العلم والعلماء للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى.
فبعض الناس حكي عنه كما في بعض الكتب أنه كان يتورع عن أكل اللحم، فلما سئل، قال: لا أستطيع أن أؤدي شكره، فأنكر عليه العالم الجليل وقال له: هل تؤدي شكر شربة الماء؟! فالمسألة ليست مقايضة، بمعنى أن تأتي النعمة ونحن نشكر شكراً مكافئاً لها، وإلا فلا يمكن للإنسان أن يتعاطى أي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإطلاق، فأيهما أهم قطعة اللحم، أم الماء الذي تشربه؟ الماء أهم؛ فلذلك هذا المتفلسف لما امتنع عن أكل اللحم بحجة أنه يخشى ألا يؤدي شكرها، أفحمه ذلك العالم بقوله: هل أنت تؤدي شكر نعمة الماء؟! يعني: إذاً لا تشرب الماء، وإلا فكيف ستؤدي شكر نعمة الماء؟ وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري: لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، مع وجود السبيل إليه من حله، يعني: ما دام الإنسان يستطيع أن يلبس القطن ويلبس الكتان، وأيضاً أخطأ من أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة.
وبعض الناس أخطأ أيضاً فاستدل بالآية على تجويز الحرير والخز للرجال، فأخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز، فقال له الناس: مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم: من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج، ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه.
وعلى أي الأحوال: فهذه الآية لا تشمل الحرير، وهذا أمر غني عن البيان؛ لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العام ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، هذا عام، لكن أتى ما يخصص هذا العام في تحريم الذهب والحرير على الرجال، فاستنباط حله من الآية مردود على قائله.
وقوله: ((قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) يعني: زينة الله والطيبات، مخلوقة للذين آمنوا في الحياة الدنيا.
أي: هذه الزينة ما خلقها الله سبحانه وتعالى إلا للذين آمنوا في الحياة الدنيا بالأصالة، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع.
أما في الآخرة فلا تحصل هذه المشاركة، بل تكون الطيبات خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، أي: لا يشاركهم فيها غيرهم؛ لأن الله حرم الجنة وما فيها من النعيم على الكافرين.
وانتصاب (خالصةً) على الحالية وقرئ بالرفع: (خالصةٌ) خبر بعد خبر.
قال المهايمي: إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة، وما خلق الله سبحانه وتعالى في الدنيا شيئاً إلا لجعله أمارة على الآخرة، حتى الحر والقر إنما هو أمارة وعلامة كي يعرف الإنسان إذا أخبر عن الزمهرير، وعن حر جهنم، لأنه إذا لم يذق ذلك ويعانيه فلن يستطيع أن يتخيل هذا العذاب؛ فلذلك جعل الله سبحانه وتعالى من حكمة خلق النعيم والآلام في الدنيا أن تكون