[تفسير قوله تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود)]
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩] أي: فلما التقى الجيشان قال لهم طالوت: ((إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)) وهذا فيه إشعار بأنه محذور تناوله ولو مع الطعام؛ فمنعهم من تناوله كشراب، ومنعهم أيضاً من تناوله ولو مع الطعام.
ثم قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) من اغترف غرفة واحدة فلا يخرج عن كونه مني؛ لأنه في معنى من لم يشربه، وبلا شك فإن هذا امتحان وابتلاء شديد؛ ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب الذي ينقاد لشرع الله، وبلا شك أن الذي يغترف غرفة ففتنته أشد مع شدة الحر، فعند أن يتناول غرفة واحدة من الماء، يكون شوقه إلى المزيد أكثر.
وفي قراءة: (إلا من اغترف غَرْفةً بيده) يعني: أي غرفة سواء كانت قليلة أو كثيرة، أما على قراءة: (غُرفة بيده) فهي إعلام بملئها.
((فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) يعني: شربوا منه إلى حد الارتواء، ولم يكتفوا بغرفة واحدة، وإنما شربوا وتمادوا في الشرب إلى حد الارتواء، قال تعالى: ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) لم يشربوا إلا بما أذن الله تعالى.
((فَلَمَّا جَاوَزَهُ)) الهاء تعود على النَّهر أو النهَر ((فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ))، المشار إليه طالوت ((وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) الذين شربوا غرفة واحدة أو لم يشربوا، ((قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)) فقد سلبت شجاعتهم، يظنون هنا بمعنى: يوقنون.
((قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ)) أي: أنهم يرجعون إليه بعد الموت، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((فَلَمَّا فَصَلَ)) أي: خرج طالوت بالجنود من بيت المقدس، وكان الحر شديداً، وطلبوا منه الماء (قال إن الله مبتليكم) أي: مختبركم (بنهر) يعني: ليظهر المطيع منكم والعاصي، وهذا النهر هو: النهر الذي بين الأردن وفلسطين: ((فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)) من مائه؛ لأن النهر المقصود به ماء النهر؛ لأن النهر هو الأخدود نفسه.
((فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)) أي: من مائه ((فَلَيْسَ مِنِّي)) أي: من أتباعي ((وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ)) يعني: يتركه ((فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) بالضم أو بالفتح غُرفة أو غَرفة بيده، فاكتفى بها ولم يزد عليها فإنه مني ((فَشَرِبُوا مِنْهُ)) يعني: لما وافوه شربوا بكثرة ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) فاقتصروا على الغرفة التي اغترفها كل واحد منهم كما تقدم، روي أنها كفتهم لشربهم ودوابهم، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وهذه الحكاية ضعيفة جداً.
((فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) الذين اقتصروا على الغرفة، ((قَالُوا))، أي: الذين شربوا ((لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ)) يعني: لا قوة ((لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)) أي: بقتالهم، وجبنوا ولم يجاوزوه.
(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يوقنون ((أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ)) أي: بالبعث، وهم الذين جاوزوه، (كم) بمعنى: كثير ((كَمْ مِنْ فِئَةٍ)) أي: جماعة ((قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بإرادته، ((وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) أي: بالعون والنصح.