للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إرهاصات ما قبل النبوة]

بين يدي الأحداث المهمة يحصل دائماً إرهاصات، وهي تعتبر كالمقدمات لأمر مهم سوف يحصل بعد ذلك.

نضرب أمثلة لذلك: ميلاد المسيح عليه السلام: ما الإرهاصات التي كانت قبله؟ حمل امرأة زكريا بيحيى عليه السلام، وهذه مقدمة بين يدي ما هو أعظم؛ لأن امرأة زكريا كانت قد بلغت من الكبر عتياً، وجرت سنة الحياة أنه لا يولد لمثلها؛ لأنها كانت عقيماً، وكان هو قد بلغ من الكبر عتياً، ولما رأى كرامات الله سبحانه وتعالى لـ مريم عليها السلام قال: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:٣٧ - ٣٨]، فدعا ربه أن يهبه الولد الصالح، وقد كان -كما هو مفصل في القرآن الكريم- خرق للعادة، ومعجزة، لكنه إرهاص ومقدمة بين يدي ما هو أعظم وأخطر، وهو معجزة ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

أيضاً: بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لها إرهاصات ومقدمات تنبئ عن أن شيئاً مهماً جداً سوف يحصل؛ مثل حادثة الفيل، فهي إرهاص حصل قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام يدل على أن الله يحمي هذا البيت؛ لاقتراب بعثة محمد؛ لأنه ولد عليه السلام في نفس عام الفيل.

ومن هذه الإرهاصات أيضاً: ما حصل من هواتف الجن وإخبارها عن شيء خطير وقع في هذا الكون، وهو تشديد الحراسة في السماء، فعلموا أن شيئاً خطيراً سوف يحصل؛ لأن السماء ما حرست من قبل هذه الحراسة؛ وذلك إنما حصل لأجل أن يحرس الوحي، ولا يتمكن الجن أن يسترقوا شيئاً من أخبار الوحي.

من هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظنه، وهذا من الفراسة قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي بالرجل، يعني: أول ما رأى عمر هذا الرجل قال: أظن أن هذا كان كاهناً في الجاهلية، وعمر من المحدثين الملهمين، وكانت عنده فراسة شديدة رضي الله تعالى عنه، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم! فقال عمر: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، فقال الرجل: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قولها: ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: تحيرها ودهشتها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص، جمع قلوص، وهي الناقة الشابة، وأحلاسها: جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت الظهر.

فقال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، يعني: في تلك اللحظة لما ذبح العجل صرخ هذا الجني بهذا الصوت: يا جليح! وهذا اسم رجل، فكان يناديه: يا جليح! رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.

فـ عمر نفسه أكد الخبر الذي قاله هذا الرجل الذي كان كاهناً في الجاهلية، بأن حكى هو حكاية حضرها أن جنياً صاح هذا الصياح.

وهل الجن يعرفون الغيب؟ لا، لكن هذه الإرهاصات كانت بمثابة مقدمات بين يدي نزول الوحي؛ إذ قبل أن ينزل الوحي إلى السماء اشتدت الحراسة كما قال الله حاكياً عن الجن قولهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:٨ - ٩].