تفسير قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون لجهنم حطباً)
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:١٤ - ١٥].
يقول تعالى: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)) أي: الكافرون الجائرون عن طريق الحق.
إذاً: المقسط هو العادل، والقاسط هو الجائر.
((فَمَنْ أَسْلَمَ)) يعني: من أذعن وانقاد.
((فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)).
أي: ترجوا وتوخوا رشداً عظيماً، وقصدوا صواباً واستقامة.
وقوله: ((فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) قيل: إنه من كلام الله عز وجل، وقيل: هو من كلام الجن.
قال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم، وما وعد مسلميهم.
وقد تعرضنا لذلك في سورة الأحقاف عند قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:٢٩] يعني: منذرين العذاب، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣٠ - ٣١].
فزعم البعض أن الجن إن آمنوا وعملوا الصالحات فثوابهم أن تغفر لهم ذنوبهم، وأن يجاروا من العذاب الأليم، أما الجنة فإنهم لا يدخلونها؛ لأن هذا فقط هو ثوابهم كما في قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١].
واستدلوا أيضاً بهذه الآية: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) قالوا: إن قوله: ((فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) يعني: اختاروا الطريق الصحيح، وهو طريق الإسلام: ((وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)) فزعم الفريق الذي لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم.
فرد الزمخشري عليهم بقوله: وكفى به وعداً أن قال: ((فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)).
فتحري الرشد لا شك أنه من أعظم أسباب الثواب وموجباته، والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثيب الراشد.
وقد تكلمنا كثيراً في سورة الرحمن، وذكرنا أن من أقوى ما يدل على أن مؤمني الجن في الجنة، قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣].
فالمخاطب في هذه الآية هم الجن والإنس، بدليل قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:٣٣]، فواضح أن السياق الذي فيه ذكر النعيم الموجود في سورة الرحمن في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦] عام في الجن والإنس، كذلك قوله تعالى في الحور: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦]، فدل على أن مؤمني الجن في الجنة.
وقوله تعالى: ((وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)) أي: توقد بكفار الجن كما توقد بكفار الإنس.