[تفسير قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق وهم سالمون)]
يقول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:٤٢ - ٤٣].
قال ابن عباس: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) أي: عن أمر شديد مفظع من هول يوم القيامة، ألا تسمع العرب تقول: شالت الحرب عن ساق، فهذا تعبير عن الشدة.
((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ)) يعني: فلا يستطيعون السجود لما أحاط بهم من العذاب الهائل الحائل الذي يحول بينهم وبين السجود لله تبارك وتعالى.
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: تغشاهم ذلة العصيان السالف لهم.
{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} أي: لا مانع يمنعهم منه، والمراد من السجود عبادة الله وحده وإسلام الوجه له، والعمل بما أمر به من الصالحات.
يقول القاسمي: ما أثرناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى قوله تعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) هو المعنى الظاهر المناسب للتهويل المطرد في توصيف ذلك اليوم، وعليه اقتصر الزمخشري، وعبارته: الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك.
يعني أن هذا تعبير موجود في اللغة العربية، فإذا أردت أن تصف موقفاً في الشدة وفي الهول والخطب العظيم تستعمل هذا التعبير، وهو الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام، حيث إنه في الحرب إذا اشتدت الأمور فإن النساء يولولن ويهربن من ساحة القتال، فيكشفن عن سوقهن؛ فهو يستعمل في التعبير عن الروع والهزيمة وتشمير المخدرات، والمرأة المخدرة هي المستورة داخل الخدر، والخدر هو مكان في أقصى البيت تستتر فيه البكر، فالمخدرة هي التي لا تظهر للناس.
فالكشف عن الساق استعمل لأنه حين يشتد الروع والفزع والهول في الحروب فإن النساء أول من يهربن، فلكي تتمكن المرأة من الهرب فإنها تحتاج إلى الكشف عن السيقان حتى تستطيع الجري بسرعة، ولا تعرقلها الثياب والذيول الطويلة، ومن ثم يكشف النساء عن خدامهن، والخدام هو الذهب والخلاخيل التي تلبس في السيقان.
يقول حاتم: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا فهذا شاهد لغوي على أن التعبير بالكشف عن الساق يستعمل في شدة الأهوال وفي الحروب.
فقوله: (أخو الحرب)، يعني به الإنسان الذي أصبح متمرساً في الحروب.
وقوله: (وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا) كناية عن شدة الهول في أثناء الحروب، فإنه يشمر ويجتهد في القتال.
وقال ابن الرقيات: تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي عن خدام العقيلة العذراء فقوله هنا: (تذهل الشيخ عن بنيه) يعني أن الحرب عندما يشتد حالها يذهل الشيخ عن بنيه، يعني أنها تنسيه بنيه وتلهيه عنهم، وخص الشيخ لوفور عقله وممارسته الشدائد، فالشيخ الكبير في السن الحكيم العاقل إذا اشتدت الحرب وشمرت عن ساقها تذهله عن بنيه مع وفور عقله وممارسته الشدائد، ومع فرط محبته للأولاد.
وقوله: (وتبدي عن خدام العقيلة العذراء) المقصود بالخدام -كما قلنا- الخلاخيل، والعقيلة من النساء هي التي عقلت في بيتها، أي: خدرت وحبست.
وجاء لفظ الساق منكراً في الآية ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) للدلالة على أمر مبهم في الشدة خارج عن المألوف، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:٦] كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل.
وقال أبو سعيد الضرير: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) أي: يوم يكشف عن أصل الأمر.
وساق الشيء أصله الذي به قيامه، كساق الشجر وساق الإنسان.
أي: تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها.
فالساق بمعنى أصل الأمر وحقيقته، استعارة من ساقِ الشجر.