تفسير أبي السعود لقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى)
وقد أجاب أبو السعود: بأن معنى الآية: فلا يطلع على غيبه إطلاعاً كاملاً ينكشف به جلية الحال انكشافاً تاماً موجباً لعين اليقين أحداً من خلقه.
قال: قوله: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) أي: إلا رسولاً ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته.
أقول: وهل الرسول يطلع على كل غيب؟ لا، بل يطلعه الله على ما شاء من الغيب المتعلق برسالته.
قال: كما يعرب عنه بيان: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى)) بقوله: ((مِنْ رَسُولٍ)).
إما لكونه من مبادئ رسالته، بأن يكون معجزة دالة على صحتها.
يعني: قد يطلع الله سبحانه وتعالى الرسول المرتضى على شيء من الغيب، ليكون معجزة له وأنه أخبر بهذا الغيب، وهذا ركن من أركان الاستدلال به على صدق النبوة.
فمن ضمن الأشياء الخمسة التي يستدل بها على صدق النبوة: النبوءات والإخبار عن غيب قبل أن يقع فيقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة تؤيد النبي، وتدل على صدقه.
قال: وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة.
أي: فهذا غيب، والرسول عليه الصلاة والسلام اطلع على هذا الغيب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة).
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا النوع من الغيب.
قال: وما تتوقف عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة.
يعني: فالرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا من خلال الوحي بأشياء لا يمكن أن يدلنا عليها العقل، وهي هذه الأمور الغيبية، من صفات الملائكة والجن وأحوالهم، أليس هذا كله غيباً؟! قال: أما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليها أحداً أبداً؛ لأن هذا الغيب لا يرتبط بالرسالة، ولا هو من موضوع الرسالة.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن قيام الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) إن السائل جبريل والمسئول هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كان محمد عليه الصلاة والسلام وجبريل لا يعرفان متى الساعة، فهل يطمع غيرهما أن يعرف متى الساعة؟! والآيات في ذلك واضحة.
قال: على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة.
يعني: فمن حكمة الله أنه خبأ علينا موعد الساعة؛ لأننا لو عرفنا موعد قيام الساعة لانتهى الامتحان.
قال: أيضاً: ليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء، فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكرامات بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاً، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما نسب للرسل عليهم الصلاة والسلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح.