للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا)

قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:٦٥].

أي: فأتيا الموضع المنسي فيه الحوت، ((فوجدا عبداً من عبادنا)) التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف.

والجمهور على أنه الخضر، وسنتكلم على جملة من نبئه بعد تمام قصته -إن شاء الله- ((آتيناه رحمة من عندنا)) أي: آتيناه رحمة لدنية اختصصناه بها، ((وعلمناه من لدنا علماً)) أي: علماً جليلاً آثرناه، وهو علم لدني يكون بتأييد رباني.

قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبن هنا، هل هما رحمة النبوة وعلمه أو رحمة الولاية وعلمها؟ والعلماء مختلفون في الخضر هل هو نبي، أو رسول، أو ولي؟ كما قال الراجز: واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول وقيل: مَلَك أو مَلِك -فالكلمة غير مضبوطة- ولكن يفهم من بعض الآيات أنه هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة.

الشنقيطي رحمه الله تعالى يرجح أن الخضر كان نبياً، وعليه فالعلم اللدني هنا المقصود به الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، مع العلم أن الاستدلال بها على ذلك فيه مناقشات معروفة عند العلماء.

يقول: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن الكريم.

والمنهج الصحيح في التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن أولاً، فنتحرى ونبحث عن مادة رحم أو رحمة في القرآن، فنجد أنها استعملت كثيراً في القرآن بمعنى النبوة.

يقول رحمه الله: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي؛ فمن إطلاق الرحمة على النبوة: قوله تعالى في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢]-يريد بذلك النبوة، يعني: هل هم يقسمون رحمة ربك النبوة- أي: نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقوله تعالى في سورة الدخان: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:٤ - ٦]، وقوله تعالى في آخر القصص: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:٨٦].

ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله وتعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:١١٣] وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:٦٨].

يعني: لما أوحينا إليه، وكذلك في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤] أي: وحياً.

فإذاً الرحمة هنا النبوة، والعلم هو علم النبوة والوحي.

قال: ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:٨٢]، أي: وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولاسيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار بالوحي، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:٤٥].

فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام؟ ف

الجواب

أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به.

الإلهام الذي يحصل للأولياء عند علماء الأصول مقرر أنه لا يجوز الاستدلال به، لا يوجد شيء اسمه ألهمت كذا وكذا، فيحكم ويدعي أن الله سبحانه وتعالى أحل أو شرع أو حرم على أساس الإلهام؛ لأن الإلهام ليس دليلاً شرعياً؛ لأن الولي ليس بمعصوم، وأيضاً لا يوجد دليل على صحة الاستدلال بالإلهام، بل يوجد الدليل على عدم جواز الاستدلال به.

ثم يقول رحمه الله: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره.

يعني أن بعض الصوفية يقول: الملهم يجوز له الاستدلال بالإلهام في حق نفسه لا في حق غيره من الناس.

حتى هذه الدعوى لا تسلم له، وفي الحديث: (إنه قد كان في من قبلكم محدثون، وإن يكن منهم أحد فهو عمر رضي الله عنه)، فهل عمر في يوم من الأيام جاء في أي قضية خلافية بينه وبين الصحابة استدل بأنه محدث أو بأنه ملهم؟ ما استدل بذلك أبداً.