[تفسير الزمخشري لهذه الآية]
قال الزمخشري: والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة؛ لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله.
(والقعيد) قال بعضهم: معناه القاعد.
والأظهر أن معناه المقاعد -يعني المجالس- وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل كالجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المؤاكل، والنديم بمعنى المنادم.
وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم، وكل ملازم دائماً أو غالباً يقال له قعيد، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: (قعيدك ألا تسمعيني ملامة)، قعيدك.
يعني: الذي يلازمك.
والمعنى في قوله: ((إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)) عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فهما ملكان، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
وهذا واضح، فهو ليس قعيداً واحداً عن اليمين وعن الشمال، وإنما هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فهما ملكان، لكن حذف الأول لدلالة الثاني عليه، فلم يقل: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإنما قال: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فحذف الأول لأن الثاني يدل على وجوده، وهو أسلوب عربي معروف.
قال: وأنشد له سيبويه في كتابه قول الأزرق بن طرفة الباهلي: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني يعني: كنت منه بريئاً ووالدي بريئاً، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عنـ دك راض والرأي مختلف يعني: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض والرأي مختلف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنه قول ضابي بن الحارث البرجمي فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب هو يمتدح نفسه بالشرف، فيقول: فمن يك أمسى بالمدينة رحله يعني: إذا الضيف حل بمدينتنا فإني وقيار -قيار اسم جمله- نكون غريبين، ويصير الضيف هو صاحب الدار كما يقول الشاعر: يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل يصح أن نقول: فإني غريب وقيار غريب، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
وادعى البعض أن قوله في الآيات: (قعيد) هي التي أخرت.
أي: بعض الناس قالوا: إن قوله تعالى ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد)) [ق:١٧] أصلها: عن اليمين قعيد وعن الشمال، فقالوا: إن (قعيد) راجعة إلى الأولى، أي: عن اليمين قعيد، فأما عن الشمال فهي محذوفة يدل عليها ما قبلها، وهذا القول لا دليل عليه ولا حاجة إليه؛ لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول.