[تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم)]
قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:٦] أي: أنهم إذا دخلوها فإنه يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم، قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً! أي: لا يسألون غيرهم أن يدلهم عليها، فإنك إذا ذهبت إلى مكان لا تعرفه فإنك تستدل وتسأل: أين المكان الفلاني؟ وأين الشارع الفلاني؟ وأما أهل الجنة فإنهم لا يحتاجوا على الإطلاق إلى تعريف، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تعريفهم بمنازلهم في الجنة.
وروي نحوه عن زيد بن أسلم فقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انطلقتم من الجمعة.
بل إن هدايتهم إلى منازلهم في الجنة عندما يدخلونها أكبر وأعظم من هدايتهم إلى بيوتهم التي في الدنيا إذا خرجوا منها ثم عادوا إليها، فقد روى البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده! إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله كان في الدنيا).
وقال الحسن: وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها.
وهذا قول آخر في تفسير قوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي أنه: وصفها لهم وهم في الدنيا وصفاً مشوقاً لكل مؤمن أن يسعى لتحصيلها.
وقيل: فيه حذف، والتقدير: عرّف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم، فحذف المضاف.
وقيل: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) بواسطة دليل يدلهم على المكان، وهذا الدليل هو الملك الموكل بعمل العبد، فإنه يمشي أمام الإنسان وهو يتبعه حتى يأتي العبد منزله، ويعرّفه الملك جميع ما جُعل له في الجنة، وحديث أبي سعيد السابق يرد هذا القول؛ لأن هذا القول يثبت الواسطة، وأما حديث أبي سعيد فلا يثبت الواسطة، بل إن الله هو الذي يعرفهم مكانهم في الجنة.
فالأقرب والصحيح أنه بغير واسطة، والله تعالى هو الذي يعرفهم ويهديهم إلى منازلهم في الجنة.
وقال ابن عباس: (((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) من العرف، أي: مأخوذة من العَرْف، وهو: الرائحة الطيبة.
قال ابن عباس: (أي: طيبها لهم بأنواع الملاذ)، ويقال: طعام معرف، أي: مطيب، تقول العرب: (عرفت القدر) إذا طيبتها بالملح والإبزار، وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، ويقال: حرير معرف، أي: بعضه فوق بعض، فهو من العرف المتتابع، كعرف الفرس.
وقيل: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) أي: وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة.
وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها.
وقيل: عرف المطيعين أنها لهم.
فهذه هي الأقوال في تفسيرها، وإذا صح عن النبي عليه السلام قول في تفسير آية ما وجب المصير إليه، فيجب تفسير الآية هنا بما فسرها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن معنى: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) أنه يهديهم إلى منازلهم في الجنة بمجرد دخولها، وبدون واسطة.