[تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ما كانوا يعملون)]
بيَّن تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أُخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى فلم يفعلوا، وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث إن بعض الأمم السالفة بلغوا من العتو والإيغال في الكفر وقسوة القلوب إلى حد أن الشدائد التي أُخذوا بها لم تجد شيئاً في ترقيق قلوبهم ودفعهم إلى الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فقال سبحانه وتعالى وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٤٢ - ٤٣].
وهذا نظير أحوال كثيرة من أعداء الدين في هذا العصر، فإن الكربات والمصائب تتنزل بهم من كل نوع ومن كل لون، ثم يكشفها الله سبحانه وتعالى، ولا يزدادون إلا عتواً وعناداً، وفي أيام حرب رمضان لما حصل ما حصل من فتح الله سبحانه وتعالى على المسلمين، ثم بدأ الناس يعزون ذلك إلى أن الجنود كانوا متسلحين بـ (الله أكبر)، وأن الكلمة غطت على كل جبهات القتال، وصار الناس عامهم وخاصهم ينسبون الفضل إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى وعلموا أن النصر من عند الله ظهر في اليوم الثاني أو الثالث، مقالة في الجرائد وفي الأخبار لأحد المسئولين الكبار يقول فيها: انتصرنا بالعلم والتكنولوجيا، والكلام الذي فيه أننا انتصرنا بـ (الله أكبر) غير صحيح، فنحن انتصرنا بالعلم وبالتكنولوجيا وبالأسلحة! والعياذ بالله! فنكسهم الله سبحانه وتعالى بالثغرة التي أحدثها اليهود في الضفة الغربية من القناة، كما هو معروف، وجاءت جولدا مائير إلى داخل الضفة الغربية كما هو معلوم.
فالشاهد أن بعض الناس يبلغ من قسوة القلب -والعياذ بالله- إلى أنه لو أخذ بالشدة لا يلين قلبه، ولا يتوب، بخلاف غيره من أصناف الكفار الذين هم أقل قسوة.
وما حوادث الزلازل عنا ببعيدة، وانظر كيف يصير حال الناس بعد الزلزال الذي يستغرق ثوانٍ معدودة، فهل عندنا تأمين وصك بأن الله سبحانه وتعالى لا يجعل الأرض تنشق وتبتلعنا جميعاً؟! ليس عندنا ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن انظر إلى العتو، وكأننا في الليل والنهار في أمان كامل من أن ينزل علينا عذاب الله، ولذلك تجد الفجور والإسراع في الفساد والإسراع في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى بكل لون، وكلما جاء بلاء كلما ازداد بعض الناس عتواً في الأرض؛ لشدة قسوة قلوبهم، فهذا هو صنف مخصوص من العتاة ومن الظالمين والجبارين، فهم الذين تزداد قلوبهم قسوة وعتواً حتى لو نزل الكرب والبلاء.
وقوله: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) أي: أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فكذبوهم، ولم يبالوا بهم؛ لكونهم في الرخاء.
وقوله: (فأخذناهم بالبأساء) أي: بالشدة والقحط (والضراء) أي: المرض ونقصان الأنفس والأموال (لعلهم يتضرعون) أي: لعلهم يتذللون ويخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم، فالنفوس تخشع عند نزول الشدائد، لكن بعض الكفار -كما ذكرنا- يبلغ من قسوة قلبه إلى كون الشدائد لا تحرك فيه ساكناً، والعياذ بالله تعالى! وقوله: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) يعني: بالتوبة والتمكن.
ومعناه: نفي التضرع، فهم لم يتضرعوا في الحقيقة، وجيء بـ (لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، كما قال عز وجل: (ولكن قست قلوبهم)، فلم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينزجروا، وإنما ابتلوا به.
وقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: من الشرك.
والاستدراك بقوله: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع، يعني أن الذي صرفهم عن التضرع هو وجود قسوة القلوب، والعياذ بالله، فلا مانع من التضرع إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها لهم الشيطان، وهذه نفس أحوال العلمانيين والزنادقة والملحدين في زماننا هذا.
والله سبحانه وتعالى هنا يقول: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فأسند سبحانه وتعالى التزيين هنا إلى الشيطان، وأسنده إلى نفسه في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:١٠٨]، فوقع التزيين في مواقع كثيرة، فتارة أُسند إلى الشيطان، كهذه الآية: (وزين لهم الشيطان)، وتارة أسند الله تعالى إلى نفسه، كما قال عز وجل: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)، وتارة إلى البشر أنفسهم، كقوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:١٣٧] إلى آخر الآية، وتارة جعله غير مذكور فاعله، كما قال عز وجل: (زُيِّن للمشركين)؛ لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة: أحدها: إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر، فيكون الشيء خلقاً مزيناً، كقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:٥]، أي أنها مزينة بالمصابيح التي هي النجوم.
الثاني: جعله مزيناً من غير إيجاد، كتزيين الماشطة العروس، فهي أصلاً تكون غير مزينة، ثم تأتي الماشطة فتزينها بزينة مكتسبة.
الثالث: جعله محبوباً للنفس مشتهىً للطبع، وهذا نوع من التزيين، فيصبح هذا الشيء مزيناً في نظر الإنسان، أي: أنه يشتهيه، وطبعه يميل إليه، فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله؛ لأنه الفاعل له حقيقة؛ لإيجاده له، وإن كان بمجرد تزويره وترويجه من قبل، بأن كان غير مزين، لكن حصل تزيين في شكله وفي طبعه بحيث يفتن به الناس، فهذا يكون من الشيطان بالوسوسة والإغواء، فهذا لا يسند إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان، وإن لم يذكر فاعله يقدر في كل مكان بما يليق به، فهذا فيما يتعلق باستعمال مادة التزيين.