للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ويهديكم صراطاً مستقيماً)

لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨].

قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: يخبر تعالى بفضله ورحمته برضاه عن المؤمنين، إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة.

وهذه البيعة يقال لها: بيعة الرضوان؛ سميت بيعة الرضوان لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها أحياناً: بيعة أهل الشجرة.

قال: وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق أن عثمان قتل، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين.

وعثمان كان رسولاً مبعوثاً من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام ليخبر قريشاً أنه ما جاء لقتال، وإنما جاء معظماً البيت ومريداً للعمرة، فلما بلغه نبأ مقتل عثمان جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم نحو ألف وخمسمائة تحت شجرة فبايعوه على قتال المشركين، وألا يفروا حتى يموتوا.

فأخبر الله تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، قال تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) يعني: من الإيمان ((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)) شكراً لهم على ما في قلوبهم، وزادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم وتطمئن بها قلوبهم.

((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) يعني: كافأهم الله سبحانه وتعالى بأن أثابهم فتحاً قريباً، وهو فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها جزاء لهم وشكراً على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والالتزام بمرضاته.

قوله: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:١٩] أي: له العزة والقدرة التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم يبتلي بعضهم ببعض، ويمتحن المؤمن بالكافر.

قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح:٢٠] هذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمون إلى يوم القيامة.

والمعنى وعدكم الله -أيها المؤمنون- مغانم كثيرة تأخذونها، فيدخل في هذه الغنيمة كل غنيمة غنمها المؤمنون من تلك اللحظة في فتح خيبر إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فهذا داخل في هذا الوعد.

قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) الإشارة إلى مغانم خيبر، فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للصحابة: لا تحسبوها وحدها، بل ثم شيء كثير من الغنائم سيتبعها، والدليل على ذلك قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) فحين تقول: عجلت لك هذا فمعناه: إلى أن يأتي المؤجل بعد، فهذا التعبير يتضمن بشرى بمغانم أخرى ستأتي فيما بعد.

((وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) يعني: واحمدوا الله إذ كف أيدي الناس القادرين على قتالكم الحريصين عليه، فهي نعمة وتخفيف عنكم.

((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني: ولتكون هذه الغنيمة آية للمؤمنين يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن الذي قدرها سيقدر غيرها.

((وَيَهْدِيَكُمْ)) بما يقيض لكم من الأسباب ((صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) من العلم والإيمان والعمل.

((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)) أي: وعدكم الله أيضاً غنيمة أخرى لم تقدروا عليها وقت هذا الخطاب.

((قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) أي: هو قادر عليها، وهي تحت تدبيره وملكه وقد وعدكموها فلابد من وقوع ما وعد به لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)).

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة.

((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:١٩].