[اشتمال القرآن على كل العلوم]
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ونحو ذلك؟
و
الجواب
أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يجب أن يكون مخصوصاً لبيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، فمن يقول: ما دليل نظرية فيثاغورس والنظريات الهندسية، وتفاصيل الطب والحساب، وكل هذه العلوم الموجودة ما دليلها في القرآن إذا قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم؟ فالجواب أنه يجب أن يخصص تفسير هذه الآية (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فيقال: ما فرطنا في الكتاب من شيء، بل بينا كل ما يجب علمه والإحاطة به.
وأما الدليل على وجوب هذا التفسير، أي أن قوله: (ما فرطنا في الكتاب شيء) هو في بيان ما تجب معرفته ويجب علمه في أمور الدين فيستدل له بأن الله سبحانه وتعالى قال: (ما فرطنا)، ولفظ التفريط لا يستعمل نفياً ولا إثباتاً إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير بأن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه، فإذا قلت لشخص: افعل كذا.
فإذا كان مما يجب عليه أن يفعله ولم يفعله فقد فرط، لكن إذا كان هذا الأمر الذي خاطبته به أو كلفته به أمر تافه أو يستغنى عنه فلا يوصف عدم فعله بالتفريط؛ لأنه شيء يستغنى عنه ولا قيمة له، فلا يستعمل هذا الوصف إلا فيما يجب علمه وبيانه وعمله، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن جميع آيات القرآن -أو الكثير- منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق هنا محمولاً على ذلك المقيد، أي: أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: الشيء الذي يجب معرفته والإحاطة به من أمور الدين لا من أمور الدنيا.
ولو استقرأنا القرآن الكريم لخرجنا بهذا الاستنباط؛ لأن المقصود الأساسي من إنزال هذا الكتاب هو أنه كتاب هداية، وليس كتاب تكنولوجيا، فليس مقصوده أن يدلنا ويهدينا إلى النظريات، وأما هذه الحقائق الحسية فإن الله سبحانه وتعالى جهزنا بالآلات والإمكانات والقدرات التي ترشدنا إلى اكتشافها شيئاً فشيئاً؛ لأنها من الأشياء المحسوسة الموجودة، وهي تبنى على التجربة والمشاهدة، ويأتي الاستنتاج بعد ذلك، فالقدرة إما بالنظر، أو بالشم، أو باللمس، أو بالذوق، أو بالحس، وقد زودنا الله سبحانه وتعالى بالعقل وبالأدوات التي نستطيع أن نكتشف بها هذه الحقائق، ونترقى في معرفتها شيئاً فشيئاً، فهذه لهوانها على الله صرفها للبشر، ولكن هل يمكن أن نهتدي إلى الأمور الغيبية من تفاصيل الجنة والنار، والقضاء والقدر، وأحوال الأنبياء السابقين، وما يحصل قبل يوم القيامة، وأسرار النفس البشرية وما يصلحها، والذي يرضي الله والذي يغضبه تعالى، وما هو الواجب وما هو المستحب في العبادات وغير ذلك، كل ذلك هل يمكن أن نهتدي إليه بغير وحي؟! أقول: كل ذلك لا يمكن أن تستقل العقول بالوصول إليه، فلذلك لم يفرط الله سبحانه وتعالى في الكتاب من شيء، بل بين لنا كل ما ينفعنا في أمور الدين لا في أمور الدنيا؛ لأن أمور الدنيا تركت لنا في الغالب، أما أمور الدين فما فرط الله عز وجل في شيء من أمور الدين.
فإذاً: المطلق ها هنا في قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يحمل على المقيد، وجاء التقييد من استقراء القرآن، فعند استقراء القرآن الكريم نجد أن في القرآن آيات كثيرة كلها تشير إلى أن المقصود من إنزال القرآن هو هداية الناس إلى صلاح دينهم وأمور آخرتهم.
أما أن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع فإن علم الأصول هو العلم بالعقائد والتوحيد، وهو بتمامه حاصل فيه، ولا شك في أن كل قضايا الأصول وقضايا الدين والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قد بينها لنا القرآن الكريم؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه، فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها؛ لأن الإنسان يستطيع أن يقيم دينه دون أن يحتاج إليها.
أما تفاصيل علم الفروع فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن؛ لأن القرآن أساس الأدلة الشرعية كلها.
فالقرآن دلنا على حجية السنة، والقرآن دلنا على حجية الإجماع، وحجية القياس، وعلى حجية خبر الواحد، ومن ثم أصبح العمل بهذه الأدلة كلها هو عمل بالقرآن نفسه.
فإذاً: يعتبر القرآن -أيضاً- فيه الدلالة على قضايا الفروع في قضايا الفقه وغيرها من فروع المسائل والتفاصيل الدقيقة؛ لأنه إما أن يستدل عليها بالقرآن فيكون القرآن مشتملاً على الدليل، أو من السنة والسنة حجة في ذاتها، والقرآن أيضاً دل على حجيتها، وإما أن يستدل بإجماع، والقرآن هو الذي دل على حجيته، وإما أن يستدل بالقياس فكذلك، وإما يستدل بخبر الواحد فكذلك.
فإذاً: القرآن -أيضاً- دلنا على الاحتجاج بهذه الأدلة.