[القرآن معجزة النبي الكبرى]
قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره، وهو الدليل وحده؛ وما عداه مما ورد من الأخبار سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهى فليس مما يوجب القطع عند المسلمين، فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وحظ من التأكيد لمن سلمه من أهله؛ ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده.
والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة وأن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر هو: أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتابة، ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم منقذاً لهم من خسران كانوا فيه وهلاك أشرفوا عليه، وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف.
مع أن التحدي كان تحدياً صارخاً لأعظم بلغاء عرفهم تاريخ العرب وهم قريش، مع ذلك ما يعرف عن رجل منهم أنه استجاب لهذا التحدي، إنما لجئوا إلى المجالدة والقتال بالسيف، لكن هل عرف عن أحد منهم أنه استجاب لهذا التحدي؟! لا.
يقول: فعجزوا والآية تتحداهم، وهل تحدي أقوى من أن يقول الله لهم: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:٢٤]؟ وهذه الآية من أعظم إعجاز القرآن الكريم حيث قال: ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا))، فقطع بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم! وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء، واضطهاد المؤمنين؛ إلى أن ألجئوهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جنباتها.
وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم، وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨]، وقال تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:٣٨].
يقول: وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصح دليلاً على المدعى، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:٢٣ - ٢٤]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢].
فالقرآن يطالبهم بمقاومة الحجة بالحجة، ولم يطالبهم بمجرد التسليم على الرغم من العقل، فالإسلام ما طالب الناس أن يدخلوا فيه بالإكراه وبالإرغام وبالإجبار، وإنما أمرهم بإعمال العقل، وأن يستعملوا العقل الذي ميزهم الله به عن العجماوات، حتى يهتدوا به إلى إعجاز هذا القرآن الكريم.
يقول: معجزة القرآن جامع من القول العلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها خطة الذي لا ينتقص؛ وله أن يأخذ حقه الذي لا ينتقص من التدبر في القرآن الكريم، فهي معجزة أعجزت كل قوم أن يأتوا بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها.
أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت، أو إخراج شيطان من جن، أو شفاء علة من بدن؛ فهي مما ينقطع عنده العقل، ويجمد لديه الفهم.
هذا الفارق بين معجزة القرآن ومعجزات من سبق من الأنبياء؛ كإحياء الموتى مثلاً بالنسبة لعيسى عليه السلام، هل معجزة إحياء الموتى أو معجزة العصا من الأشياء التي يفسح فيها المجال للعقل لكي يتفكر ويتعقل كيف حصلت؟ لا، لأنها خرق للأسباب العادية، فهذا هو المقصود من قوله: فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم.
وإنما يأتي بها الله سبحانه وتعالى على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم تضئ عقولهم بنور العلم، وهكذا يؤتي الله بقدرته الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.
يقول: وقال فاضل آخر: قضت رحمة الله جل شأنه أن تكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم، يبسط بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليهم انتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يئوب من استبطائه بنجاح، بدون هذا الاعتبار للعقل لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها، هذا ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية، وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن الإحاطة بها عقولهم، وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه.
وأما الآن حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنساني رشده؛ فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة؛ لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية، فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولاً، ثم إذا ظهر لهم برآته منه صاروا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات! ومحمد عبده له موقف فيه ملاحظات كثيرة بالنسبة لقضية المعجزات، وهذا الكلام في الحقيقة لا يخفى أن فيه ما يرد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام له معجزات حسية، وكان القرآن قطعاً أكبر معجزة، لكن هل اقتصر الله سبحانه وتعالى في تأييد نبيه محمد عليه الصلاة والسلام على معجزة القرآن فقط؟ لا! نعم هو معجزة المعجزات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أيد بمعجزات أخرى؛ كنبع الماء من بين أصابع يده الشريفة عليه الصلاة والسلام والإسراء والمعراج وغير ذلك والمعجزات كثيرة جداً.
فالكلام السابق يشم منه رائحة كلام من مدرسة محمد عبده الغير مرضي في قضية المعجزات.
ومن الكلام الذي لا نقبله قوله: مما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تجوز فيها مسائل المعجزات تكذيب علماء أوروبا لكل المعجزات السابقة، وهو وإن كان تهوراً منهم إلا أنهم مصيبون في قولهم: إننا في زمان لا ينشئ فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي.
هذا الكلام فيه نظر! فلا زالت المعجزة وخرق العادة دليلاً واضحاً جداً على أن هذا الإنسان مؤيد من عند الله سبحانه وتعالى.
الفارق فقط أنه لم توجد في زمننا معجزة خارقة للعادة كمعجزات الأنبياء؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد قبض عليه الصلاة والسلام وذهب إلى الرفيق الأعلى، وترك معجزاته الحسية خبراً يخبر به.
أما المعجزة الحية التي هي متجددة وقائمة فهي لا شك القرآن الكريم، لكن هذا لا ينفي الإعجاز بما عدا القرآن الكريم من المعجزات بأنواعها.
يقول: لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق بأعمال العقل واتباع قواعد العلم بصرف النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات.
وهذا الكلام أيضاً غير صحيح، وأنا أعجب كيف أن القاسمي مع سلفيته الواضحة جداً يتورط في موافقة مدرسة محمد عبده في مثل هذه الأشياء؟! يقول: لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية.
انتهى.