[وجوه الإسراف]
وقيل: تدل الآية على المنع من الإسراف، وهو على وجهين: أولهما: إنفاق في معصية، كأن يصرف الإنسان أمواله في القمار واللعب والزنا والخمر ونحوها.
وثانيهما: أن يتعدى الحدود، وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار، أي: أن موضوع الإسراف فيما أباحه الله سبحانه وتعالى بتعدي الحدود المعقولة، أمر نسبي يتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فمثلاً الإسراف في حق الرجل الذي عنده قدر يسير من المال، أن ينفقه في ضيافة أو في طيب أو في ثياب خز، فهذا ترف محرم؛ ولذلك فإن قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:٣]، بينه قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:٢١٩] يعني: ما فضل عن النفقة الأساسية، وهي نفقة الأهل والأولاد وغير ذلك من أنواع النفقة الواجبة، ولهذا لا يكون التصدق إلا بعد أداء الفريضة أولاً، لأن التطوع يكون بعد الفريضة، فكذلك الإنسان الذي عنده مال محدود يحتاجه هو وعياله وأطفاله، فإذا أنفقه في إكرام الناس بالضيافات أو بالطيب أو بثياب فخمة فهذا بلا شك إسراف؛ لأنه هو نفسه وأولاده ومن يعولهم يحتاجون إلى هذا المال.
ومثل هذا القدر من المال الذي ينفقه في الطيب أو في الملبس الجيد رجل موسر، نسبة هذا المال إلى ماله نسبة قليلة، لا تفقره ولا تضره، فمثل هذا في الموسرين لا يقبح، وإذا اشترى هذا الموسر طيباً أو ثياباً جيدة فهذا لا يكون في حقه من الإسراف.
فإذاً موضوع الإسراف موضوع نسبي، والعبرة بأن يؤدي الإنسان ما عليه، خاصة من الزكاة.
وتدل الآية على أن الأشياء على الإباحة: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا))، والعقل يدل على ذلك؛ لأنه تعالى خلقه لمنافعهم، والسمع ورد مؤكداً، ولذلك قال: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ)) يعني: معناها أنه لا يطالب بدليل سمعي، فكلمة: (من حرم) يعني: ائتونا بدليل سمعي يدل على أن الله سبحانه وتعالى حرم ما تذكرون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده)، وقال البخاري: قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف أو مخيلة.
هذا هو الضابط في النفقة: (كل ما شئت والبس ما شئت) ما لم تقع في إحدى هاتين الاثنتين، وهما الإسراف أو المخيلة، والتكبر على عباد الله عز وجل.
وقال الشهاب: هذا لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء: أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي، ويلبس ما يشتهيه الناس.
نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبسن ما اشتهته الناس ((إنه لا يحب المسرفين)) وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء؛ لأن من لم يحبه الله سبحانه وتعالى لم يرض عنه.
ثم ذكر القاسمي هنا كلاماً مفصلاً في الربط بين قواعد الصحة الغذائية في قوله تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فذكر أن هذه الآية الكريمة جمعت الطب كله، ثم نقل عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما يدل على اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب واشتمال السنة المطهرة على بدائعه في كتابه زاد المعاد، فتكلم بالتفصيل عن أمراض القلوب وعلاجها من القرآن الكريم والسنة، فبين أن أمراض القلوب إما مرض شبهة وشك، وإما مرض شهوة وغي، وبين أيضاً أمراض الأبدان، وتكلم عنها بالتفصيل، ثم تكلم عن الحمية التي هي الوقاية، ثم فصل بعد ذلك في الكلام على طب القلوب، وذكر كلاماً كثيراً جداً، لكن لضيق الوقت لن نفصله.
ونحن الآن حالنا في الحقيقة من أعجب الأحوال، يعاني كثير من الناس الآن من أمراض السمنة التي تنشأ من كثرة الأكل وعدم الانضباط في تناول الطعام والشراب، أو الإسراف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، ثم ينفقون من الأموال القدر العجيب في سبيل أن يحافظوا على نظام غذائي معين، من أجل أن يوقف وزنه! ولو أن الواحد منهم التزم بالهدي القرآني: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) ما احتاج إلى ما وقع فيه من هذه السمنة، ولا ما وقع فيه من الكلفة التي تكلفها في سبيل التحرر من هذه الأوزان الزائدة، فهذا أيضاً من الحيدة عن الاعتدال: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).