[نقل عبارات السلف في معنى الآية]
أما عبارات السلف فهم يطلقون النسخ ويريدون به عدة معان، من ضمنها الإفهام بعد الإيهام، وهو أن يأتي نص فيه نوع من الإيهام غير واضح في دلالته، فيأتي نص آخر يوضحه ويبينه، فيقول بعض السلف في مثل هذا: هذه الآية نسختها آية كذا، يعني: وضحتها وبينت المقصود منها.
أما المعنى الأصولي للنسخ، وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، فهذا المعنى أحياناً يكون هو المراد وأحياناً لا يكون هو المراد من النسخ، كما سبق أن بينا ذلك مراراً.
فاشتهر القول بالنسخ في كتب التفسير كلها تقريباً.
فقد روى ابن جرير عن مجاهد قال: قال علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:١٢]، قال علي رضي الله تعالى عنه: كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلما ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
وروي عن ابن عمر أنه قال: ثلاث فضل بهن علي رضي الله تعالى عنه: ما يسرني أن لي بها الدنيا، وذكر منها آية النجوى هذه، وذكر منها: إعطاءه الراية في خيبر، وذكر منها: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياه من فاطمة رضي الله تعالى عنها.
يقول القرطبي: ما روي عن علي رضي الله عنه في هذه الآية ضعيف؛ لأن الله تعالى قال: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء، والله تعالى أعلم.
فهنا يرد القرطبي الخبر المروي عن علي بنفس هذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، فظاهرها أن أحداً لم يتصدق بشيء.
وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ: فقيل: بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وقيل: ما بقي إلا ساعة من النهار ثم نسخ.
وعن مجاهد قال: نهاهم عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا.
فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدم ديناراً فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة في ذلك.
وعن قتادة: أنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار.
وعنه أيضاً قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، أي: أحرجوه وشقوا عليه، فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المجادلة:١٢].
وعن الحسن وعكرمة قالا: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ))، نسختها التي بعدها: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) إلى آخر الآية.