[أعلى درجات الإيثار: الإيثار بالنفس]
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس، يعني: أن المال لا يراد لذاته، وإنما يراد لإشباع حاجات النفس من الطعام أو الكسوة أو غيرها، لكن أقوى من ذلك الإيثار بالروح وبالنفس، وقد رأيتم صورة الأخ الفلسطيني وهو يذب عن ابنه، وهو شيء لا يستغرب ففيه حنان الأبوة وإيثارها، فالرجل كان هو وابنه قاعدين على الأرض في العراء إلى جانب برميل، وقد ضم الولد إليه، واليهود لعنهم الله وأذلهم، ونكس راياتهم وراية من يوالونهم يضربون النار بصورة متتابعة على المكان، والمكان خالٍ تماماً!! وهما بعيدان تماماً عن المظاهرة!! وهذا من جبن اليهود ونتنهم، فهم قد علو في الأرض وأفسدوا فيها كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وكانوا قبل هذا يستعملون الرصاص المسمى الرصاص المطاطي، وأما الآن فيستخدمون رصاصات تدخل داخل الجمجمة ثم تنفجر، وهذه محرمة دولياً، ومع ذلك فإنهم يضربون بها المدنيين، فهل هذه أخلاق الرجال؟! وهل هذا ما يسمونه بحقوق الإنسان: أن يُضرب هؤلاء المدنيون الذين لا يملكون إلا الحجارة من قبل هؤلاء الأنذال أخس خلق الله لعنهم الله بالصواريخ والدبابات والطايرات الهيلوكبتر.
والشاهد منظر الأخ الفلسطيني وهو يذب عن الولد ويحاول أن يحميه بقدر الاستطاعة، ثم إذا بالرصاصة تصيب قدم الطفل ابن اثني عشر سنة ويتمدد على الأرض بعد أن قتله اليهود، والصورة الأخيرة للأب وقد أغمي عليه من الذهول من هذا الموقف، فهذه الصورة التي هزت ضمير العالم! أهي أول مرة يحصل ذلك بضمير العالم؟! إن المسافر والذاهب إلى إمريكا قد يسمع أصوات سيارات الإسعاف فيجد المرور متوقفاً، ويرى حالة من الفزع لا تتصور، ويرى التحقيقات والتدقيقات من أجل قطة صدمت بالسيارة! فيا لها من رحمة ورقة؟! هكذا تكون رقة القلب الأوروبي الرحيم مع القطط والكلاب!! وقد تصل إلى أن يستعملوا الطيارات أحياناً لإنقاذ طائر محبوس في مكان معين! وهكذا تفيض قلوبهم رقة على هذه الأشياء، وتجد الملايين من الدولارات تكتب في الميراث للكلاب، فالرجل عندهم قد يخلف الملايين من الدولارات، فيكتبها ميراثاً للكلب، ويحرم أولاده من صلبه! فالذي حصل من هذا الأخ الفلسطيني هي صورة من صور الإيثار بالنفس، وهذا من رحمة الأبوة التي وضعها الله في قلوب الخلق بجانب أخلاق الإيمان والإسلام، وهذا لا يستغرب في تراثنا، وكذلك الأم دائماً تضحي من أجل ابنها، وقد تغرق هي حتى ينجو كما هو مذكور في كثير من القصص.
إن الإيثار بالنفس أقوى من الإيثار بالمال قال الشاعر وهو ابن الوليد: تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود ومن العبارات الرشيقة في تعريف المحبة: أنها الإيثار، يقول: ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها فقالت: {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:٥١] وأفضل الجود بالنفس ما يجود فيه الإنسان بالنفس لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء كان في الصحابة معروفاً، وهذا أعلا أو أغلا ما يبذله الإنسان أن يفدي رسول الله عليه الصلاة والسلام بنفسه.
ففي الصحيح: (إن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد) أي: أنه جعل جسده مثل الترس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إذا جاء سهم أصابه هو وبخا الرسول عليه السلام.
يقول: ففي الصحيح: (أن أبا طلحة رضي الله عنه ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك، نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده رضي الله تعالى عنه).
وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به، فقلت له: أسقك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلي ابن عمي: أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار: أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام: أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد! ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا، أي: ما هو الفرق؟ فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.
وتفريق المجموع هو أن يجتمع لديه مال فيفرقه في أوجه الخير، وترك طلب المفقود: هو ألا يشتت نفسه في تتبع المفقود الذي لم يوجد، والإيثار عند القوت.
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري -والري هي طهران حالياً، وإليها ينسب الرازي - أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان، وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما فرغوا من الطعام أُضيء السراج فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئاً؛ إيثاراً لصاحبه على نفسه.
قوله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، فمعنى: (ولو كان بهم خصاصة) أي: لو كان بهم فاقة وحاجة, ومنه قول الشاعر: أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المكثر