للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها)]

وقوله عز وجل: (ريح فيها عذاب أليم)، هذه صفة للريح، (تدمر كل شيء)، هذه صفة ثانية للريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت هذه الريح تحمل الفساطيط -جمع فسطاط وهي الخيام -وتحمل الظعينة -وهو الجمل يظعن عليه- والهودج سواء كانت فيه امرأة أم لا، فترفعها كأنها جرادة ثم تضرب بها الصخور.

قال ابن عباس: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب، ورأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريح، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم ورمتهم في البحر، فهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (تدمر كل شيء بأمر ربها).

قال ابن عباس: (تدمر كل شيء) أي: كل شيء بعثت إليه، وهذا التفسير يجب أن ننتبه له، فقوله: (تدمر كل شيء بأمر ربها)، ليس على عمومه ولا على إطلاقه، لكنه مقيد بـ: كل شيء بعثت لتدميره، وليس كل شيء على الحقيقة كما يظهر لأول وهلة.

قيل: إن هذه الريح أمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال كما قال الله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:٧]، والحسوم: الدائمة في الشر، إذ شرها مستمر لا ينقطع، ثم أمر الله سبحانه وتعالى الريح فكشفت عنهم الرمال، واحتملتهم ورمتهم في البحر، والتدمير الهلاك، وكذلك الدمار، وقرئ: (يدمر كل شيء)، من دمر دماراً دمره ودمر عليه ودمر يدمر دموراً: دخل بغير إذن، وفي الحديث: (من سبق طرفه استئذانه فقد دمر) يعني: دخل بغير إذن.

قوله عز وجل: (تدمر كل شيء)، يعني: تدمر كل شيء من بلادهم مما من شأنه الخراب، كما قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:٤٢] يعني: كالشيء البالي.

إذاً: كل شيء هنا ليست على عمومها وإنما المقصود بها: كل شيء أمرت به، أو من شأنه أن يدمر، وما الدليل على قولنا: لابد من تفسيرها: بأنها دمرت كل شيء أمرت بتدميره؟

الجواب

قوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)، فبقية الآية دل على أن المساكن لم تؤمر الريح بتدميرها.

وقد احتج الإمام أحمد رحمه الله تعالى بهذه الآية في مسألة من مسائل العقيدة، وهي مسألة كلام الله سبحانه وتعالى، فإنه اعتمد على هذا التفسير بأن هناك فرقاً بين قول الرحمن وبين ما كان بقوله.

قال الإمام أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: أخبرونا عن القرآن هو شيء؟ فقلنا: نعم هو شيء، فقال: إن الله خالق كل شيء، فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أنه شيء؟! ومثل هذا السؤال من المغاليط، فهو يدفع إلى إجابة بعينها ويحاول أن يستدرجك إلى إجابة بعينها، مع أن الصواب ليس فيها، وإنما الصواب في غيرها.

يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: فلعمري لقد ادعى أمراً أمكنه فيه الدواء، ولبس على الناس بما ادعى، فقلنا -رددنا على هذا المغالط-: إن الله في القرآن لم يسم كلامه شيئاً، وإنما سمى شيئاً الذي كان يقوله، ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} [النحل:٤٠]، فالشيء ليس هو قوله، إنما الشيء الذي كان بقوله، وفي آية أخرى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس:٨٢]، فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره.

ومن الأعلام الدالات أنه لا يعني أن كلامه من الأشياء المخلوقة، أنه قال للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، وقد أتت تلك الريح على أشياء، فلم تدمرها مثل منازلهم ومساكنهم والجبال التي بحضرتهم.

فكذلك إذا قال: ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر:٦٢]، لا يعنى نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة.

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:١٩]، فمما يخبر به عن الله أنه شيء، ولذلك كما قلنا في تفسير: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢] نقول: خالق كل شيء في عالم الممكنات لا المستحيلات ولا الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، كما هو اصطلاح المتكلمين.

كذلك قال في ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:٢٣]، أليس ملك سليمان شيئاً؟ وهل هي أوتيت ملك سليمان؟ لا.

يعني: أوتيت من كل شيء مما تؤتاه الملوك، وليس على الإطلاق، وقد كان ملك سليمان شيئاً ولم تؤته.

وكذلك إذا قال: (خالق كل شيء)، لا يعني أن كلامه مع الأشياء المخلوقة.

وشأن أهل البدع دائماً إساءة الفهم، ومغالطتهم في المناقشات، مثلاً: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:٤١]، وقال عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:٢٨]، وقال المسيح عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:١١٦]، وقال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:٥٤]، مع أنه قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥]، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يعني بقوله: (كل نفس ذائقة الموت)، نفسه عز وجل تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فبنفس الباب نرد على من يستدل بقوله: (الله خالق كل شيء)، على أن كلام الله أو أن القرآن مخلوق لعموم قوله: (كل شيء)، كما بينا.